س: هذا موضوع أرجو أن يتسع وقتكم لتحريره وتحقيقه، وهو موضوع الزواج من غير المسلمات. وأعني بالذات "الكتابيات" مسيحيات أو يهوديات -ممن نعتبرهم نحن المسلمين "أهل كتاب" ولهم حكم خاص يميزهم عن غيرهم من الوثنيين وأمثالهم.
وقد رأيت ورأى الكثيرون غيري مفاسد جمة من وراء هذا النوع من الزواج، وخصوصا على الأولاد من هذه الزوجة، التي كثيرا ما تصبغ البيت كله بصبغتها، وتربي الأبناء والبنات على طريقتها، والزوج لا يقدم ولا يؤخر، فهو في الأسرة مثل "شرابة الخرج" كما يقول العامة.
وقد سألت بعض العلماء في ذلك فقال: إن القرآن أباح الزواج من نساء أهل الكتاب وليس لنا أن نحرم ما أحل الله تعالى.
ولما كان اعتقادي أن الإسلام لا يبيح ما فيه ضرر أو مفسدة، كتبت إليكم مستوضحا رأيكم في هذه القضية، لما علمته من نظرتكم الشاملة إلى مثل هذه القضايا، ومعالجتها في ضوء النصوص الأصلية للشريعة، وفي ضوء مقاصدها ومبادئها العامة، وأصولها الكلية.
أرجو ألا تهملوا الرد على هذه الرسالة بالرغم مما أعلم من مشاغلكم…والله معكم ويسددكم.
جواب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد.
فقد قدر في أن أزور عددا من أقطار أوروبا وأمريكا الشمالية، وأن ألتقي بعدد من أبناء المسلمين الذين يدرسون أو يعلمون هناك، ويقيمون بتلك الديار إقامة مؤقتة أو مستقرة.
وكان مما سأل عنه الكثيرون: حكم الشرع في زواج الرجل المسلم من غير المسلمة وبخاصة المسيحية أو اليهودية، التي يعترف الإسلام بأصل دينها، ويسمى المؤمنين به "أهل الكتاب" ويجعل لهم من الحقوق والحرمات ما ليس لغيرهم.
ولبيان الحكم الشرعي في هذه القضية، يلزمنا أن نبين أصناف غير المسلمات وموقف الشريعة من كل منها. فهناك المشركة، وهناك الملحدة، وهناك المرتدة، وهناك الكتابية.
تحريم الزواج من المشركة
فأما المشركة -والمراد بها: الوثنية- فالزواج منها حرام بنص القرآن الكريم. قال تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) وقال تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) وسياق الآية والسورة كلها -سورة الممتحنة- وسبب نزولها يدل على أن المراد بالكوافر: المشركات: أعني الوثنيات.
والحكمة في هذا التحريم ظاهرة، وهي عدم إمكان التلاقي بين الإسلام والوثنية، فعقيدة التوحيد الخالص، تناقض عقيدة الشرك المحض، ثم إن الوثنية ليس لها كتاب سماوي معتبر، ولا نبي معترف به، فهي والإسلام على طرفي نقيض. لهذا علل القرآن النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين بقوله: (أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه) ولا تلاقي بين من يدعو إلى النار ومن يدعو إلى الجنة.
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان؟
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يمان
أن ينتشر الزواج من غير المسلمات، بحيث يؤثر على الفتيات المسلمات الصالحات للزواج، وذلك أن عدد النساء غالبا ما يكون مثل عدد الرجال أو أكثر، وعدد الصالحات للزواج منهن أكبر قطعا من عدد القادرين على أعباء الزواج من الرجال. وهذا الحكم -منع الزواج من المشركات الوثنيات- ثابت بالنص، وبالإجماع أيضا، فقد اتفق علماء الأمة على هذا التحريم، كما ذكر ابن رشد في بداية المجتهد وغيره.
بطلان الزواج من الملحدة
وأعنى بالملحدة: التي لا تؤمن بدين، ولا تقر بألوهية ولا نبوة ولا كتاب ولا آخرة، فهي أولى من المشركة بالتحريم، لأن المشركة تؤمن بوجود الله، وإن أشركت معه أندادا أو آلهة أخرى اتخذتهم شفعاء يقربونها إلى الله زلفى فيما زعموا. وقد حكى القرآن عن المشركين هذا في آيات كثيرة مثل: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن: الله)، (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
فإذا كانت هذه الوثنية المعترفة بالله في الجملة قد حرم نكاحها تحريماً باتاً، فكيف بإنسانة مادية جاحدة، تنكر كل ما وراء المادة المتحيزة، وما بعد الطبيعة المحسوسة، ولا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالملائكة ولا الكتاب ولا النبيين؟.
إن الزواج من هذه حرام بل باطل يقينا.
وأبرز مثل لها: الشيوعية التي تؤمن بالفلسفة المادية، وتزعم أن الدين أفيون الشعوب، وتفسر ظهور الأديان تفسيرا ماديا، على أنها من إفراز المجتمع، ومن آثار ما يسوده من أحوال الاقتصاد وعلاقات الإنتاج.
وإنما قلت: الشيوعية المصرة على شيوعيتها، لأن بعض المسلمين والمسلمات قد يعتنق هذا المذهب المادي، دون أن يسبر غوره، ويعرفه على حقيقته، وقد يخدع به حين يعرضه بعض دعاته على أنه إصلاح اقتصادي لا علاقة له بالعقائد والأديان.. الخ. فمثل هؤلاء يجب أن يزال عنهم اللبس، وتزاح الشبه، وتقام الحجج، ويوضح الطريق حتى يتبين الفرق بين الإيمان والكفر، والظلمات والنور، فمن أصر بعد ذلك على شيوعيته فهذا كافر مارق ولا كرامة، ويجب أن تجري عليه أحكام الكفار في الحياة وبعد الممات.
المرتدة
ومثل الملحدة: المرتدة عن الإسلام والعياذ بالله، ونعني بالمرتدة والمرتد كل من كفر بعد إيمانه كفرا مخرجا من الملة، سواء دخل في دين آخر أم لم يدخل في دين قط. وسواء كان الدين الذي انتقل إليه كتابيا أم غير كتابي. فيدخل في معنى المرتدين ترك الإسلام إلى الشيوعية، أو الوجودية، أو المسيحية، أو اليهودية، أو البوذية، أو البهائية، أو غيرها من الأديان والفلسفات، أو خرج من الإسلام ولم يدخل في شيء، بل ظل سائبا بلا دين ولا مذهب.
والإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه، حتى إنه لا يعتبر إيمان المكره ولا يقبله، ولكن من دخل فيه بإرادته الحرة لم يجز له الخروج عنه.
وللردة أحكام بعضها يتعلق بالآخرة وبعضها بالدنيا.
فمما يتعلق بالآخرة: أن من مات على الردة فقد حبط كل ما قدمه من عمل صالح واستحق الخلود في النار، قال تعالى: (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
ومن أحكام الدنيا: أن المرتد لا يستحق معونة المجتمع الإسلامي ونصرته بوجه من الوجوه، ولا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم ومرتدة، أو بين مرتد ومسلمة، لا ابتداء ولا بقاء، فمن تزوج مرتدة فنكاحه باطل، وإذا ارتدت بعد الزواج فرق بينهما حتما، وهذا حكم متفق عليه بين الفقهاء، سواء من قال منهم بقتل المرتد رجلا كان أو امرأة وهم الجمهور، أم من جعل عقوبة المرأة المرتدة الحبس لا القتل، وهم الحنفية.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الحكم بالردة والكفر على مسلم هو غاية العقوبة. لهذا وجب التحري والاحتياط فيه، ما وجد إليه سبيل، حملا لحال المسلم على الصلاح. وتحسينا للظن به، والأصل هو الإسلام، فلا يخرج منه إلا بأمر قطعي، واليقين لا يزال بالشك.
بطلان الزواج من البهائية
والزواج من امرأة بهائية باطل، وذلك لأن البهائية إما مسلمة في الأصل، تركت دين الله الحنيف إلى هذا الدين المصطنع، فهي في هذه الحال مرتدة بيقين، وقد عرفنا حكم الزواج من المرتدة.
وسواء ارتدت بنفسها أم ارتدت تبعا لأسرتها، أو ورثت هذه الردة عن أبيها أو جدها، إن حكم الردة لا يفارقها.
وإما أن تكون غير مسلمة الأصل، بأن كانت مسيحية أو يهودية أو وثنية أو غيرها، فحكمها حكم المشركة، إذ لا يعترف الإسلام بأصل دينها، وسماوية كتابها، إذ من المعلوم بالضرورة أن كل نبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم مرفوضة، وكل كتاب بعد القرآن باطل، وكل من زعم أنه صاحب دين جديد بعد الإسلام فهو دجال مفتر على الله تعالى. فقد ختم الله النبوة، وأكمل الدين، وأتم النعمة: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين).
وإذا كان زواج المسلم من بهائية باطلا بلا شك، فإن زواج المسلمة من رجل بهائي باطل من باب أولى، إذ لم تجز الشريعة للمسلمة أن تتزوج الكتابي، فكيف بمن لا كتاب له؟
ولهذا لا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم وبهائية أو بين مسلمة وبهائي، لا ابتداء ولا بقاء. وهو زواج باطل، ويجب التفريق بينهما حتما.
وهذا ما جرت عليه المحاكم الشرعية في مصر في أكثر من واقعة.
وللأستاذ المستشار علي علي منصور حكم في قضية من هذا النوع قضى فيه بالتفريق، بناء على حيثيات شرعية فقهية موثقة، وقد نشر في رسالة مستقلة، فجزاه الله خيرا.
رأى جمهور المسلمين إباحة الزواج من الكتابية
الأصل في الزواج من نساء أهل الكتاب عند جمهور المسلمين هو الإباحة.
فقد أحل الله لأهل الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم في آية واحدة من سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم. قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان).
رأي ابن عمر وبعض المجتهدين
وخالف في ذلك من الصحابة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فلم ير الزواج من الكتابية مباحا، فقد روى عنه البخاري: أن كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين، (يعني قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) ولا أعلم من الإشراك شيئا أكبر من أن تقول: "ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله!").
ومن العلماء من يحمل قول ابن عمر على كراهية الزواج من الكتابية لا التحريم ولكن العبارات المروية عنه تدل على ما هو أكثر من الكراهية.
وقد أخذ جماعة من الشيعة الإمامية بما ذهب إليه ابن عمر استدلالا بعموم قوله تعالى في سورة البقرة: (ولا تنكحوا المشركات) وبقوله في سورة الممتحنة: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر).
ترجيح رأي الجمهور
والحق أن رأي الجمهور هو الصحيح، لوضوح آية المائدة في الدلالة على الزواج من الكتابيات. وهي من آخر ما نزل كما جاء في الحديث.
وأما قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات) وقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فأما أن يقال: هذا عام خصصته سورة المائدة، أو يقال: إن كلمة "المشركات" لا تتناول أهل الكتاب أصلا في لغة القرآن، ولهذا يعطف أحدهما على الآخر كما في سورة البقرة: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين..)، (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها..).
وفي سورة الحج يقول تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) فجعل الذين أشركوا صنفا متميزا عن باق الأصناف، ويعني بهم الوثنيين. والمراد بـ "الكوافر" في آية الممتحنة: المشركات، كما يدل على ذلك سياق السورة.
قيود يجب مراعاتها عند الزواج من الكتابية
وإذن يكون الراجح ما بيناه من أن الأصل هو إباحة زواج المسلم من الكتابية، ترغيبا لها في الإسلام، وتقريبا بين المسلمين وأهل الكتاب، وتوسيعا لدائرة التسامح والألفة وحسن العشرة بين الفريقين.
ولكن هذا الأصل معتبر بعدة قيود، يجب ألا نغفلها:
القيد الأول: الاستيثاق من كونها "كتابية" بمعنى أنها تؤمن بدين سماوي الأصل كاليهودية والنصرانية، فهي مؤمنة -في الجملة- بالله ورسالاته والدار الآخرة. وليست ملحدة أو مرتدة عن دينها، ولا مؤمنة بدين ليس له نسب معروف إلى السماء.
ومن المعلوم في الغرب الآن أنه ليس كل فتاة تولد من أبوين مسيحيين مثلا مسيحية. ولا كل من نشأت في بيئة مسيحية تكون مسيحية بالضرورة. فقد تكون شيوعية مادية، وقد تكون على نحلة مرفوضة أساسا في نظر الإسلام كالبهائية ونحوها.
القيد الثاني: أن تكون عفيفة محصنة؛ فإن الله لم يبح كل كتابية، بل قيد في آياته الإباحة نفسها بالإحصان، حيث قال: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) قال ابن كثير: والظاهر أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنى، كما في الآية الأخرى: (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان). وهذا ما أختاره. فلا يجوز للمسلم بحال أن يتزوج من فتاة تسلم زمامها لأي رجل، بل يجب أن تكون مستقيمة نظيفة بعيدة عن الشبهات.
وهذا ما اختاره ابن كثير، وذكر أنه رأي الجمهور، وقال "وهو الأشبه، لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: حشفا وسوء كيله!".
وقد جاء عن الإمام الحسن البصري أن رجلا سأله: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال: ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات؟! فإن كان ولا بد فاعلا. فليعمد إليها حصانا (أي محصنة) غير مسافحة، قال الرجل: وما المسافحة؟! قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته.
ولا ريب أن هذا الصنف من النساء في المجتمعات الغربية في عصرنا يعتبر شيئا نادرا بل شاذا، كما تدل عليه كتابات الغربيين وتقاريرهم وإحصاءاتهم أنفسهم، وما نسميه نحن البكارة والعفة والإحصان والشرف ونحو ذلك، ليس له أية قيمة اجتماعية عندهم، والفتاة التي لا صديق لها تعير من أترابها، بل من أهلها وأقرب الناس إليها.
القيد الثالث: ألا تكون من قوم يعادون المسلمين ويحاربونهم. ولهذا فرق جماعة من الفقهاء بين الذمية والحربية. فأباحوا الزواج من الأولى، ومنعوا الثانية. وقد جاء هذا عن ابن عباس فقال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهم من لا يحل لنا. ثم قرأ: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية..) فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.
وقد ذكر هذا القول لإبراهيم النخعي -أحد فقهاء الكوفة وأئمتها- فأعجبه. وفي مصنف عبد الرزاق عن قتادة قال: لا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد. وعن علي رضي الله عنه بنحوه.
وعن ابن جريج قال: بلغني ألا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد.
وفي مجموع الإمام زيد عن علي: أنه كره نكاح أهل الحرب. قال الشارح في "الروض النضير": والمراد بالكراهة: التحريم؛ لأنهم ليسوا من أهل ذمة المسلمين. قال: وقال قوم بكراهته ولم يحرموه، لعموم قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) فغلبوا الكتاب على الدار. يعني: دار الإسلام. والذي من أهل دار الإسلام بخلاف غيره من أهل الكتاب.
ولا ريب أن لرأي ابن عباس وجاهته ورجحانه لمن يتأمل، فقد جعل الله المصاهرة من أقوى الروابط بين البشر، وهي تلي رابطة النسب والدم، ولهذا قال سبحانه: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا). فكيف تتحقق هذه الرابطة بين المسلمين وبين قوم يحادونهم ويحاربونهم؟ وكيف يسوغ للمسلم أن يصهر إليهم، فيصبح منهم أجداد أولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم؟ فضلا عن أن تكون زوجه وربة داره وأم أولاده منهم؟ وكيف يؤمن أن تطلع على عورات المسلمين وتخبر بها قومها؟
ولا غرو أن رأينا العلامة أبا بكر الرازي الحنفي يميل إلى تأييد رأي ابن عباس محتجا له بقوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) والزواج يوجب المودة، يقول تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة) سورة الروم.
قال: فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورا، لأن قوله تعالى: (يوادون من حاد الله ورسوله) إنما يقع على أهل الحرب، لأنهم في حد غير حدنا.
يؤيد ذلك قوله تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
وهل هناك تول لهؤلاء أكثر من أن يزوج إليهم، وتصبح الواحدة من نسائهم جزءا من أسرته بل العمود الفقري في الأسرة؟
وبناء على هذا لا يجوز لمسلم في عصرنا أن يتزوج يهودية، ما دامت الحرب قائمة بيننا وبين إسرائيل، ولا قيمة لما يقال من التفرقة بين اليهودية والصهيونية، فالواقع أن كل يهودي صهيوني، لأن المكونات العقلية والنفسية للصهيونية إنما مصدرها التوراة وملحقاتها وشروحها والتلمود… وكل امرأة يهودية إنما هي جندية -بروحها- في جيش إسرائيل.
القيد الرابع: ألا يكون من وراء الزواج من الكتابية فتنة ولا ضرر محقق أو مرجح، فإن استعمال المباحات كلها مقيد بعدم الضرر، فإذا تبين أن في إطلاق استعمالها ضررا عاما، منعت منعا عاما، أو ضررا خاصا منعت منعا خاصا، وكلما عظم الضرر تأكد المنع والتحريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار".
وهذا الحديث يمثل قاعدة شرعية قطعية من قواعد الشرع، لأنه -وإن كان بلفظه حديث آحاد- مأخوذ من حيث المعنى من نصوص وأحكام جزئية جمة من القرآن والسنة، تفيد اليقين والقطع.
ومن هنا كانت سلطة ولي الأمر الشرعي في تقييد بعض المباحات إذا خشي من إطلاق استخدامها أو تناولها ضررا معينا.
والضرر المخوف بزواج غير المسلمة يتحقق في صور كثيرة:
فإذا أصبح التزوج بغير المسلمات ظاهرة اجتماعية مألوفة، فإن مثل عددهن من بنات المسلمين سيحرمن من الزواج، ولا سيما أن تعدد الزوجات في عصرنا أصبح أمرا نادرا، بل شاذا، ومن المقرر المعلوم بالضرورة أن المسلمة لا يحل لها أن تتزوج إلا مسلما، فلا حل لهذه المعادلة إلا سد باب الزواج من غير المسلمات إذا خيف على المسلمات.
وإذا كان المسلمون في بلد ما، يمثلون أقلية محدودة، مثل بعض الجاليات في أوروبا وأمريكا، وبعض الأقليات في آسيا وأفريقيا، فمنطق الشريعة وروحها يقتضي تحريم زواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، وإلا كانت النتيجة إلا يجد بنات المسلمين -أو عدد كبير منهن- رجلا مسلما يتقدم للزواج منهن، وحينئذ تتعرض المرأة المسلمة لأحد أمور ثلاث:
(أ) إما الزواج من غير مسلم، وهذا باطل في الإسلام.
(ب) وإما الانحراف، والسير في طريق الرذيلة. وهذا من كبائر الإثم.
(ج) وإما عيشة الحرمان الدائم من حياة الزوجية والأمومة.
وكل هذا مما لا يرضاه الإسلام. وهو نتيجة حتمية لزواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، مع منع المسلمة من التزوج بغير المسلم.
هذا الضرر الذي نبهنا عليه هو الذي خافه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -فيما رواه الإمام محمد بن الحسن- في كتابه "الآثار حين بلغه أن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان تزوج -وهو بالمدائن- امرأة يهودية، فكتب إليه عمر مرة أخرى: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفي بذلك فتنة لنساء المسلمين".
وقد ذكر الإمام سعيد بن منصور في سننه قصة زواج حذيفة هذه، ولكنه ذكر تعليلا آخر لمنع عمر لحذيفة. فبعد أن نفى حرمة هذا الزواج قال: "ولكني خشيت أن تعاطوا المومسات منهن".
ولا مانع أن يكون كل من العلتين مقصوداً لعمر رضي الله عنه.
فهو يخشى -من ناحية- كساد سوق الفتيات المسلمات، أو كثير منهن. وفي ذلك فتنة أي فتنة.
ومن ناحية أخرى يخشى أن يتساهل بعض الناس في شرط الإحصان -العفاف- الذي قيد به القرآن حل الزواج منهن، حتى يتعاطوا زواج الفاجرات والمومسات، وكلتاهما مفسدة ينبغي أن تمنع قبل وقوعها، عملا بسد الذرائع. ولعل هذا نفسه ما جعل عمر يعزم على طلحة بن عبيد الله إلا طلق امرأة كتابية تزوجها، وكانت بنت عظيم يهود، كما في مصنف عبد الرزاق.
إن الزواج من غير المسلمة إذا كانت أجنبية غريبة عن الوطن واللغة والثقافة والتقاليد -مثل زواج العربي والشرقي من الأوروبيات والأمريكيات النصرانيات- يمثل خطرا آخر يحس به كل من يدرس هذه الظاهرة بعمق وإنصاف، بل يراه مجسدا ماثلا للعيان. فكثيرا ما يذهب بعض أبناء العرب المسلمين إلى أوروبا وأمريكا للدراسة في جامعاتها، أو للتدريب في مصانعها، أو للعمل في مؤسساتها، وقد يمتد به الزمن هناك إلى سنوات ثم يعود أحدهم يصحب زوجة أجنبية، دينها غير دينه ولغتها غير لغته، وجنسها غير جنسه، وتقاليدها غير تقاليده، ومفاهيمها غير مفاهيمه، أو على الأقل غير تقاليد قومه ومفاهيمهم، فإذا رضيت أن تعيش في وطنه -وكثيرا ما لا ترضى- وقد لأحد من أبويه أو إخوته أو أقاربه، أن يزوره في بيته، وجد نفسه غريبا. فالبيت بمادياته ومعنوياته أمريكي الطابع أو أوربي في كل شيء، وهو بيت "المدام" وليس بيت صاحبنا العربي المسلم، هي القوامة عليه، وليس هو القوام عليها. ويعود أهل الرجل إلى قريتهم أو مدينتهم بالأسى والمرارة، وقد أحسوا بأنهم فقدوا ابنهم وهو على قيد الحياة!!
وتشتد المصيبة حين يولد لهما أطفال، فهم يشبون -غالبا- على ما تريد الأم، لا على ما يريد الأب إن كانت له إرادة، فهم أدنى إليها، ألصق بها، وأعمق تأثرا بها، وخصوصا إذا ولدوا في أرضها وبين قومها هي، وهنا ينشأ هؤلاء الأولاد على دين الأم، وعلى احترام قيمها ومفاهيمها وتقاليدها… وحتى لو بقوا على دين الأب، فإنما يبقون عليه اسما وصورة،لا حقيقة وفعلا. ومعنى هذا أننا نخسر هؤلاء الناشئة دينيا وقوميا، إن لم نخسر آباءهم أيضا.
وهذا الصنف أهون شرا من صنف آخر يتزوج الأجنبية، ثم يستقر ويبقى معها في وطنها وبين قومها، بحيث يندمج فيهم شيئا فشيئا، ولا يكاد يذكر دينه وأهله ووطنه وأمته. أما أولاده فهم ينشأون أوربيين أو أمريكيين، إن لم يكن في الوجوه والأسماء، ففي الفكر والخلق والسلوك، وربما في الاعتقاد أيضا، وربما فقدوا الوجه والاسم كذلك، فلم يبق لهم شيء يذكرهم بأنهم انحدروا من أصول عربية أو إسلامية.
ومن أجل هذه المفسدة، نرى كثيرا من الدول تحرم على سفرائها، وكذلك ضباط جيشها، أن يتزوجوا أجنبيات، بناء على مصالح واعتبارات وطنية وقومية.
تنبيه مهم
وفي ختام هذا البحث، أرى لزاما علي -في ضوء الظروف والملابسات التي تتغير الفتوى بتغيرها- أن أنبه على أمر لا يغيب عن ذوي البصائر، وهو في نظري على غاية من الأهمية، وهو:
إن الإسلام حين رخص في الزواج من الكتابيات راعى أمرين:
أن الكتابية ذات دين سماوي في الأصل، فهي تشترك مع المسلم في الإيمان بالله وبرسالاته، وبالدار الآخرة، وبالقيم الأخلاقية، والمثل الروحية التي توارثتها الإنسانية عن النبوات، وذلك في الجملة لا في التفصيل طبعا. وهذا يجعل المسافة بينها وبين الإسلام قريبة، لأنه يعترف بأصل دينها، ويقر بأصوله في الجملة، ويزيد عليها ويتممها بكل نافع وجديد.
إن المرأة الكتابية -وهذا شأنها- إذا عاشت في ظل زوج مسلم ملتزم بالإسلام، وتحت سلطان مجتمع مسلم مستمسك بشرائع الإسلام -تصبح في دور المتأثر لا المؤثر، والقابل لا الفاعل- فالمتوقع منها والمرجو لها أن تدخل في الإسلام اعتقادا وعملا. فإذا لم تدخل في عقيدة الإسلام -وهذا من حقها إذ لا إكراه في الدين- اعتقادا وعملا. فإنها تدخل في الإسلام من حيث هو تقاليد وآداب اجتماعية. ومعنى هذا أنها تذوب داخل المجتمع الإسلامي سلوكيا، إن لم تذب فيه عقائديا.
وبهذا لا يخشى منها أن تؤثر على الزوج أو على الأولاد، لأن سلطان المجتمع الإسلامي من حولها أقوى وأعظم من أي محاولة منها لو حدثت.
كما أن قوة الزوج عادة في تلك الأعصار، وغيرته على دينه، واعتزازه به اعتزازا لا حد له، وحرصه على حسن تنشئة أولاده، وسلامة عقيدتهم، يفقد الزوجة القدرة على أن تؤثر في الأولاد تأثيرا يتنافى مع خط الإسلام.
أما في عصرنا، فيجب أن نعترف بشجاعة وصراحة: إن سلطان الرجل على المرأة المثقفة قد ضعف، وإن شخصية المرأة قد قويت، وبخاصة المرأة الغربية، وهذا ما وضحناه فيما سبق.
أما سلطان المجتمع المسلم فأين هو؟ إن المجتمع الإسلامي الحقيقي الذي يتبنى الإسلام عقيدة وشريعة ومفاهيم وتقاليد وأخلاقا وحضارة شاملة، غير موجود اليوم.
وإذا كان المجتمع المسلم غير موجود بالصورة المنشودة، فيجب أن تبقى الأسرة المسلمة موجودة، عسى أن تعوض بعض النقص الناتج عن غياب المجتمع الإسلامي الكامل.
فإذا فرطنا في الأسرة هي الأخرى، فأصبحت تتكون من أم غير مسلمة، وأب لا يبالي ما يصنع أبناؤه وبناته، ولا ما تصنع زوجته، فقل على الإسلام وأهله السلام!.
ومن هنا نعلم أن الزواج من غير المسلمات في عصرنا ينبغي أن يمنع سدا للذريعة إلى ألوان شتى من الضرر والفساد. ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. ولا يسوغ القول بجوازه إلا لضرورة قاهرة أو حاجة ملحة، وهو يقدر بقدرها.
ولا ننسى هنا أن نذكر أنه مهما ترخص المترخصون في الزواج من غير المسلمة، فإن مما لا خلاف عليه، أن الزواج من المسلمة أولى وأفضل من جهات عديدة، فلا شك أن توافق الزوجين من الناحية الدينية أعون على الحياة السعيدة، بل كلما توافقا فكريا ومذهبيا كان أفضل.
وأكثر من ذلك أن الإسلام لا يكتفي بمجرد الزواج من أية مسلمة، بل يرغب كل الترغيب في الزواج من المسلمة المتدينة، فهي أحرص على مرضاة الله، وأرعى لحق الزوج، وأقدر على حفظ نفسها وماله وولده، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".