آلام المسيح



* توجهت الى اكبر دار للعرض السينمائي في مدينة هيوستنن لحضور فيلم "آلام المسيح" بعد يوم واحد من البدء بعرضه في اكثر من اربعة الاف دار عرض سينمائية في الولايات المتحدة ولم اجد تذكرة الاّ في العرض الثالث وكان علي ان انتظر في طابور طويل لم اشهد مثله من قبل في هذه الدار التي تضم تجمعا لقاعا ت سينمائية عملاقة تزيد عن عشرين مزوّدة باحدث ما توصل اليه العلم من تقنيات عدا عن المقاعد الوثيرة والنظام الصوتي الذي يجعلك تعيش كل ثانية مع ابطال الفيلم.



* كانت ظاهرة حضور المشاهدين دار العرض وهم مسلحون بعلب من كلينكس ( المحارم الورقية ) لافتة للنظر ومع الدقائق الاولى للفيلم عرفت السبب بعد ان بدأ بكاء المشاهدين ونحيبهم يطغي في بعض الاحيان على صوت المسيح وهو يتألم من التعذيب.



* الفيلم من انتاج واخراج الممثل الاسترالي الاصل ميل جيبسون وهو مسيحي كاثوليكي متعصب ورب اسرة تتكون من سبعة اولاد. . . ورغم شهرته لم يظهر ميل جيبسون في الفيلم حيث اعطى البطولة لممثل مغمور. . . وجعل لغة الحوار في الفيلم باللغة الآرامية القديمة التي كان يتحدثها السيد المسيح وهي لغة ذات جذور عربية لذا كان بامكاني سماع عشرات الكلمات والالفاظ العربية التي اطعمها المخرج بخلفيات موسيقية شرقية وعربية ومواويل( يل ليل يا عين ) مخلوطة بموسيقى جنائزية على ايقاع اوجاع وتنهدات وزفرات السيد المسيح.



* الفيلم الذي استغرق عرضه اكثر من ساعتين وخمس دقائق مستوحى من (العهد الجديد) - الانجيل - وبالتحديد من الساعات العشر الاخيرة من حياة السيد المسيح اي منذ ان وشى يهوذا الاسخريوطي بالمسيح الى اختفاء السيد المسيح من المغارة التي دفن فيها مرورا بعملية اعتقاله وتعذيبه.



* يبدأ الفيلم بعملية الاعتقال التي يقوم بها يهود باشراف حاخامات المدينة وتبدأ عملية الشتم والضرب والاهانة والسخرية من المسيح لتمهد للمشاهد الاكثر قسوة في الفيلم ويرسي السيناريو منذ الدقائق الاولى حقيقة طالما نفاها اليهود وهي انهم هم الذين اعتقلوا وعذبوا وصلبوا المسيح وقد اكد المخرج هذه الحقيقة بصراحة بل وبيّن بوضوح ان الموقف من المسيح لم يكن قاصراً على زعماء اليهود فقط بل وشمل الشعب كله الذي كان يصطف على الطرقات لشتم المسيح والسخرية منه ويخرج في تظاهرات امام قصر الحاكم الروماني للضغط عليه من اجل تعذيب وقتل المسيح بعد توجيه الاتهام له بالكذب وبالسعي لهدم المعبد.



* وفي اطار تكريسه لهذه الكراهية لليهود يقوم المخرج بالتركيز على موقف الحاكم الروماني من خلال اظهار تعاطفه مع المسيح وتعاطف زوجته التي تطلب من زوجها الحاكم اطلاق سراح المسيح وهو ما يرفضه اليهود حتى عندما يخيرهم الحاكم بين اطلاق سراح قاتل ومجرم محكوم عليه بالاعدام. . او اطلاق سراح السيد المسيح فيختارون الاوّل ويصرون على تعذيب المسيح وصلبه مما يرفع من وتيرة التاثر في قاعة السينما بين مشاهدي الفيلم.



* رضوخ الحاكم الروماني لمطالب اليهود رغم تعاطفه الواضح مع المسيح وتعاطف زوجته التي تبدو وكأنها آمنت به سببه - كما ورد في الفيلم- عملية الابتزاز السياسي التي مارسها اليهود حيث زعموا ان المسيح يدعي انه الملك الجديد لليهود. . . وانهم - كيهود- لا يعترفون الا بالقيصر كملك لهم وهي (الرسالة) التي فهمها الحاكم الروماني وممثل القيصر في فلسطين لان ممانعته في تلبية رغبات اليهود بصلب المسيح وقتله تعني موافقته على ظهور منافس للقيصر في حكم فلسطين لكن المخرج يبرز براءة الرومان من دم المسيح ليس فقط بمواقف التعاطف الانساني مع المسيح خلال عملية التعذيب وانما ايضاً بتصوير حادثة غسل الحاكم ليديه بالماء امام اليهود للاعلان عن براءته من دم المسيح قبل ان يأمر - مضطرا- رجاله بتنفيذ رغبات اليهود.



* تبدأ آلام السيد المسيح في باحة القلعة بحضور الاف من اليهود ومن اتباعه ايضاً. . . حيث يتم ربط المسيح بشجرة تشبه الى حد بعيد الطاولة التي يستخدمها اللحامون في بلادنا ( وهي قطعة من قاع شجرة ). . . ويقوم اثنان من مفتولي العضلات بتبادل جلد المسيح على ظهره امام ضحكات المشاهدين اليهود وسخريتهم وتستغرق عملية الجلد اكثر من عشرين دقيقة من الفيلم يتحول خلاله ظهر المسيح الى خطوط طولية وعرضية من الجروح النازفة قبل ان يأمر مسئول السجن بفك يدي المسيح وقلبه على ظهره حيث تبدأ جولة جديدة من عملية الجلد على البطن والارجل لتمتلأ ساحة القلعة بالدماء التي تنزف من كل سنتمتر من جسده بما في ذلك من راسه الذي زنروه بطوق من الاسلاك الشائكة صنعها الجلاد لتبدو مثل التاج الذي يزين رؤوس الملوك.



* تنتهي الجولة الاولى من الجلد بتدخل زوجة الحاكم الروماني المغلوب على امره ويقوم الجلادون بنقل المسيح الى قصر الحاكم يتبعهم الاف اليهود لتبدا المساومة من جديد بين الحاكم واليهود لعلهم يطلقون سراح الرجل دون جدوى ويصر حاخاماتهم على عقاب الصلب السائد آنذاك وتبدأ الجولة الثانية باجبار المسيح على حمل صليب ضخم من جذوع الاشجار الى حيث ستتم عملية الصلب. . . ويصور المخرج (طريق الالام) بطريقة مؤثرة تختلط فيها عذابات المسيح الذي يظل يجلد طوال الطريق بضحكات اليهود وسخريتهم والذين يحتشدون على طول الطريق المؤدية الى الهضبة التي سيصلب عليها.



* مشهد دق المسامير في يدي وارجل المسيح قد يكون الاكثر قسوة في الفيلم وقد صوره المخرج بطريقة انتزعت الصرخات من المشاهدين ولعل هذا المشهد هو الذي صنف الفيلم من ضمن افلام الكبار حيث لا يسمح لمن تقل اعمارهم عن 17 سنة بمشاهدته الا بحضور اولياء امورهم.



* ومع ان اليهود - بخاصة في امريكا- اعترضوا بشدة على الفيلم بل و نفوا ان يكون اليهود هم الذين قتلوا المسيح او عذبوه الا ان السيناريو الذي كتبه ميل جيبسون ووافق عليه البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان يتفق مع ما تذكره كتب الدين المسيحي عن الساعات الاخيرة في حياة المسيح.



* والرواية معروفة. . . فوصول المسيح في عيد الفصح الى القدس اثار غضب كهنة المعبد اليهودي بعد ان وجدوا ان سكان القدس قد رحبوا بالمسيح والتفوا حوله. . . وخشي اليهود ان يقود المسيح انقلابا في المدينة يخرق المعاهدة الامنية التي عقدوها مع الامبراطور الروماني حيث وعد اليهود بالمحافظة على الامن في المدينة في مقابل ان يمتنع الامبراطور عن استخدام العنف ضدهم ومن هذا المدخل اجبر اليهود ممثل الامبراطور في القدس على الرضوخ لطلبهم باعتقال المسيح وتعذيبه وصلبه بعد ان افهموه ان هذا الرجل الذي يحظى بتاييد الالاف من سكان المدينة قد يهدد ويزعزع الامن فيها مما يدفع الامبراطور الروماني الى تنفيذ تهديداته بالبطش باليهود.



* اليهود - بدورهم- يقولون ان الذين عذبوا المسيح هم كهنة المعبد فقط اي انهم طائفة متعصبة او متدينة من اليهود اعتقدوا في حينه ان وجود المسيح قد يؤثر على الامن في البلاد ويثير القيصر ضدهم. . . في حين ان الفيلم يصور ان سكان المدينة كلهم كانوا ضد المسيح وساهموا في التحريض عليه وتلذذوا بتعذيبه.



* لقد تجنب اليهود في امريكا الاعلان عن هويتهم الدينية داخل دور العرض السينمائي او امامها لان شحنة الكراهية لهم التي تتركها مشاهد التعذيب قد تتحول الى عنف بخاصة وان قراءة دور اليهود في تعذيب المسيح كما وردت في الكتب شيء. . . ومشاهدة هذا الدور مجسدا على الشاشة لمدة تزيد عن ساعتين باستخدام احدث تقنيات السينما شيء آخر.



* لذا ارى ان الفيلم هو اخطر ضربة يمكن ان توجه للنفوذ اليهودي في امريكا واذا كان هذا الفيلم قد تسبب بكل هذه الاشكالات لليهود حتى قبل عرضه فكيف سيكون الحال في الاسابيع القادمة بخاصة وان الكنائس بدأت تنظم رحلات جماعية الى دور السينما لحضور الفيلم كما ان الفيلم اعاد حكاية معاداة السامية الى الاضواء ولكن هذه المرة ليس في مواجهة العرب او المسلمين الذين طالما كانوا ضحايا لمثل هذه الاتهامات وانما في مواجهة اكثر من 200 مليون مسيحي في امريكا لم يقتنعوا بالبيانات التي صدرت عن جمعيات دينية يهودية تنفي علاقة اليهود بقتل المسيح.



* مخرج الفيلم ومنتجه النجم ميل جيبسون يرفض الاحتجاجات اليهودية ويرى انها ليست في محلها ويؤكد ان آلام المسيح وعذابات المسيح قبل مقتله لا يتحملها اليهود وحدهم بل يشاركهم فيها جميع المسيحيين المخطئين وهو بهذا يعكس الرؤية الدينية للكنيسة الكاثوليكية التي ينتمي اليها جيبسون والتي ترى ان آلام وعذابات المسيح قبل وفاته جاءت تكفيرا عن خطايا المسيحيين في كل الازمان.



* لكن مشاهدي الفيلم سيخرجون بانطباع مختلف تماما - وهو ما خرجت به شخصيا -. . . فالعنصر الشرير الوحيد الذي ظهر في الفيلم هم اليهود ومن وراءهم الشيطان الذي ظهر في صورة رجل يحرّض الناس على المسيح ويتشفى به في حين ظهر اتباع المسيح وهم يبكون. . . ويمسحون دماءه عن الارض للتبرك بها. . . كما ظهر الحاكم الروماني كانسان متعاطف مع المسيح.



* نسيت ان اقول لكم ان الفيلم صوّر في يطاليا وقد اختار المخرج قرية رومانية قديمة شديدة الشبه بالقدس القديمة كما ان اختيار المخرج للغة الآرامية - مع ترجمة باللغة الانجليزية- اضفى الكثير من الواقعية على الفيلم. . . . ومع ان ميل جيبسون انفق ثلاثين مليون دولارا فقط على انتاج الفيلم الا ان العائد المادي المتوقع لهذا الفيلم سيتجاوز كل الارقام السابقة في تاريخ السينما.



* يبدو ان فيلم ميل جبسون ( الام المسيح ) هو الذي سيحد من النفوذ اليهودي في امريكا. . . . والمواجهة الان مفتوجة على وسعها بين اليهود. . . . والكنائس على اختلاف مسمياتها في أمريكا. . . ويبدو ان المواجهة ستطول. . . . وستطغى على الانتخابات الامريكية القادمة التي ستلعب فيها الشعارات الدينية دورا كبيرا في حسمها.