د. محمد الشهري
محمد - صلّى الله عليه وسلّم - الذي غيّر العالم وأعاد للفطرة البشريّة وَهَجَها، وأنشأ أجيالاً من " المصلحين" و قادة للتّغيير... هو إمام الواعظين وقدوتهم، وما من مصلح أو واعظ في تاريخ المسلمين صادق، إلاّ هو مقتفٍ أثر محمد -صلّى الله عليه وسلّم- في صدق نيّته، وحسن اتّباعه، ونقاء سريرته من الأهواء الشّخصيّة والمصالح المؤقّتة التي تصرف عن الهدف الأسمى والأطهر.
وما كان الوعْظ ولايمكن أن يكون أمرًا من الفضول، وممّا يُستخفّ به ويُستهان في مجتمعات مسلمة تملك إرثًا تعي منه العلاقة بين العبادة والعمل، وبين عمق التّديّن وعمق الإنتاج، بين التأثّر والتّأثير، وبين ما يلزم المسلم فردًا من النّظر لنفسه وعلاقته بربّه وحسن عبادته.. وبين ما يعمّ المجتمع من نظام في الحياة وإنتاج وبناء.
"مثقّف" اليوم يعاني عقدة من الوعظ، يهرب منه ما استطاع، ويسعى جهده كلّه لكي لا يجد خطابه متّهمًا بهذه التّهمة الشّنيعة، وربّما بالغ في الانسلال منها بتحميل الوعظ والواعظين كلّ مشاكلنا الحضاريّة، وتخلّفنا في كلّ جانب.
وكأن من يتصدّى لوعْظ النّاس لا يمكن أن يكون إلاّ "درويشًا" يجهل من أمر الحياة أكثر ممّا يعلم، متمسكنًا في سيرته وسيره، متمسّحًا بمسوح الرّهبان، يحسن ترديد أوراد معيّنة ويملي طقوسًا على مريديه من "أمثاله". أمّا المثقّف: فهو شخص يتأبّى على الوعظ، لا يثيره إلاّ الحراك الفكريّ، وجديد الاصدارات، وتطوّرات هذا العالم، إن مرّ على واعظ يعظ موعظة حسنة، أو كتاب يذكّر بالله وباليوم الآخر أعرض، كأنّ المقصود بهذا غيره، وكأنّها مرحلة يتجاوزها الإنسان وطور من أطوار حياته، يبتعد عنه كلّما ازداد "ثقافة" واطّلاعًَا، فليس من طالبي هذه البضاعة، ولا من قاصدي هذا الصّوت!
ومثل هذا التّصور لدى القارئ.. ينشأ بلا شعور ويتضخّم بغفلة منّا، فيصبح عادة ذهنيّة لا ننفكّ بها مقترنين، فنشغل بقضايا الأمّة الكبرى المهمّة والتّفكير فيها والخلاف حولها، عمّا هو"عمليّ"، ممّا نقدر عليه من إصلاح أنفسنا وتزكيتها وإحياء عباداتنا المفروضة، فضلاً عن النّوافل منها، والجمع بين هذا وذاك أمر يسع - بل يلزم - العاقل فعله وانتهاجه.
وإنّ التّعبد والخشية ووعظ النّاس والوقوف عند الموعظة، ملامح بارزة في حياة المصلحين المسلمين ممّن غيّروا في مجتمعاتهم، وتأمُلُ أسماء المصلحين ومن أحدثوا تغييرًا إيجابيًّا في تاريخ المجتمعات المسلمة يقود إلى يقين أنّهم كانوا مثقّفين حقيقيّين بمفهوم اليوم، بل كانوا في عصورهم أعظم من أعظم مثقّفي اليوم، وغيّروا في مجتمعاتهم تغييرات كبيرة، تتجاوز المجتمعات الصّغيرة لتشمل الأمّة في عمومها. فوعظوا بصدْق، وغيّروا بصدْق، وقابلوا التيّارات والأفكار والفرق بفهْم ووعْي، ولم يفصلوا بين التّغيير على مستوى قضايا الأمّة الكبرى وبين علاقة العبد بربّه وحسن ارتباطه بالله..
المثقّف المسلم عندما يعظ لا يأتي أمرًا غريبًا ولا عيبًا يُعاب عليه، بل ينتهج منهج الأنبياء وطريق الرّسل وأتباعهم في تغييره ودعوته وإصلاحه.. والقرآن على عظمته وصفه الله "بالموعظة"، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ)، ويظهر في القرآن والسّنة عمق ارتباط الإنتاج في كلّ جوانب الحياة بخشية الله والخوف من عقابه ومراقبته قبل مراقبة البشر، فيأتي التّخويف من عذاب الله وعقابه في قضايا اقتصاديّة وقضايا اجتماعيّة قد يراها مثقّف اليوم بعيدة كلّ البعد عن هموم الواعظ وصورته النّمطيّة التي صنعها في ذهنه. وإذا كانت أمثلة مثقّف ما تقوده لينظر للوعظ والواعظين نظرة ازدراء، فإنّ مثال المثقّف المسلم هو محمد "الواعظ، المجاهد، العابد، إمام المصلحين".. صلّى الله عليه وسلّم.
ولو تنازلنا لهذه النوعيّة من المثقّفين ورأينا أنّ خطاب بعض الواعظين يقصر عن عقليّاتهم، وأنّهم أجدر بخطاب أعمق يستند على الدّليل والمنطق، فإنّ عموم المجتمعات المسلمة تحتاج للخطاب الهادئ البسيط، المتجرّد من كثرة التّقعيد والتّعقيد، وإن كانت الأفكار تحتاج إلى مثقّفين ومفكّرين لفهمها ووعيها، فإنّها كذلك بحاجة إلى " قادة" عمليّين ومبلّغين، يحسنون أن يكونوا حلقة الوصل بين الأفكار والمجتمعات، وإنّ عشرات الكتب الفكريّة لا تؤثّر في عموم النّاس تأثير موعظة واحدة صادقة، وهذا هو الواقع المشاهد، فليدعوا هذا الخطاب يتّجه للسّواد الأعظم، وليتفرّغوا لإثراء ساحاتنا الفكريّة بالإنتاج الفكريّ العظيم.
على أنّ الواقع يشهد أنّ الخطاب في المشهد الثقافيّ من حولنا هو - في الغالب - خطاب عاطفيّ شعاراتيّ ركيك، ولا يحمل بعدًا فكريًّا عميقًا يشفع لهذا "الهروب المتكلف" والاشمئزاز من الموعظة الدينيّة. وإنّنا حين نقيس هذا بالمقياس العقليّ المجرّد، لا نجد فرقًا بين "جاهل بسيط" قام يومًا ليعظ في النّاس بما يعلم، وبين خطاب كثير من " مثقّفينا " في بساطته، وتناوله القضايا بصورة سطحيّة وسهلة.. مع الفارق الإيجابيّ الأكبر لمن يجعل القرآن والسّنة أساسًا له في منطلقاته مهما كان!
" وليس من شرط السّمو الفكريّ الاستعلاء على الوعظ، وإنّما يستعلي على الوعظ ذوو الأميّة الثّقافيّة الذين يرفضون مثل هذه الكتب قراءة وسماعًا؛ لأنّ الوعظ للأميّين، ونحن في عصر النّور والعلم!
والقلوب أجدبت بلا ريب، ولكنّني أخشى أن تموت إن استمرأت هذا الاستعلاء الإراديّ، وشغرت أرفف المثقّفين من نفائس هذه الكتب. وإنّني أبرهن للنّاس على أنّ الوعظ - إذا صحّ مضمونه شرعًا - مطلب لكلّ فكريّ طليعيّ فضلاً عن الفكر الأميّ، وذلك لأمور:
أوّلها: أنّ الوعظ لا يأتي لتأسيس الحقائق، ولكنّه يأتي للتّذكير بالحقيقة المنسيّة، ولهذا كانت الذّكرى تنفع المؤمنين.
ثانيها: أنّ الفكر الطّليعيّ يستعلي بحريّة فكره، ثم يذعن بعد ذلك لإيجابيّة فكره! ولا معنى لحريّة الفكر غير الالتزام بالحصيلة الفكريّة، ولا قيمة لإيجابيّة الفكر ما لم تتحوّل عقيدة في القلب تفرض السّلوك وتوجّهه، ولهذا يأتي الوعظ لاستجاشة القلب وتذكيره بإيجابيّة فكره.
وثالثها: أنّ العقل من المواهب المخلوقة، ولكنّه ليس الوحيد في مملكة الإنسان، فهناك الرّوح والوعي والمشاعر، ولا يعمر هذه المواهب غير الوعظ". العقل الأدبي لابن عقيل الظاهري [ص ٤٤-٤٥].
ختامًا أقول: إنّ المثقّف المسلم "استثناء" من المثقّفين، فإذا كان عقل المثقّف في أيّ ثقافة أخرى يزداد اضطرابًا وتناقضًا كلّما اقترب من الدّين، فإنّ المثقّف المسلم يزداد سكينة وهدوءًا ونضجًا، ويزداد فهمًا للسّنن الإلهيّة والفطرة الإنسانيّة.