دعونا نحب .. ؟؟
كان المرحوم أبي نوعاً فريداً من الآباء، بل من الرجال، وكنت أنا تجربته الناطقة بأفكاره.. كنا نختلف أحياناً ونتناقش فلا يحاول أن يفرض عليَّ رأياً..
المرة الوحيدة التي وصل فيها الخلاف بيننا في الرأي إلى حد المعارضة المسافرة من جانبه كانت حين صارحته، بأنّني وافقت على الزواج بكمال ابن عمي..
قال: رغم أنّه ابن أخي إلا أنّني أرى أنّه ليس الرجل المناسب لك.. أنتما نوعان مختلفان، قلت: لي قلب لا أستطيع إغفال رغباته، قال: وإذا اكتشفت عجزك عن تحقيق أحلامك؟ قلت عاتبة: أكره التشاؤم.. لأنّه ضعف.. لم يمتد العمر بأبي ليرى صواب رأيه، حقيقة اعيشها وأعاني منها.. اكتشفت أبعاد الهوة بيني وبين زوجي.. كان يخفي في أعماقه رواسب التزمت.. ولم يعد بحاجة إلى التظاهر بغير حقيقته، إستمالة لعواطفي قررت أن أكسب القضية..
فشلت.. وتكررت المعارك بيني وبينه.. زميلك محمود تتحدثين عنه كثيراً.. ابن خالتك لا يجوز أن يزورك في غيابي.. جارنا الكهل ينظر إليك نظرات مريبة.. ثمّ ركِّز على محمود الذي كنت وإياه نتشارك في الشركة غرفة واحدة، ونمت بيننا صداقة رائعة.. ذهبت كل محاولاتي معه هباء والنتيجة أنّ الحياة أصبحت جحيماً، فهو لم يعد يقتصر على التلميح بشكوكه، وإنّما عمد إلى التجسّس عليَّ في مكان عملي وبطريقة أثارت الهمسات في مجتمع العمل.
وبخاصة بعد أن شاع خبر فسخ محمود لخطبته، وعلى الرغم من أن الفسخ كان بناء على رغبة الخطيبة التي لم تقدر ظروفه المادّية، وعلى الرغم من صدمة محمود لهذا الموقف ممن أحبها، إلا أنّ الناس لم ترحم وتهامسوا بشائعات ربطت بيني وبينه بفضل تصرُّفات زوجي غير المسؤولة، زوجي هو الذي اضطرني في النهاية إلى الإصرار على الإنفصال لأنّ الإستمرار معه صار يعني إهدار كرامتي وتحطيم أعصابي.. وقال زوجي: إذن اخترته هو.. كان شكي في محله.. قلت: بل اخترت نفسي.. لم أحاول إخفاء أمر طلاقي عن مجتمع العمل، لكنّني أعددت نفسي لمعركة الصمود الطويلة للشائعات، وكانت الخطة تعتمد على الإحتفاظ بعلاقتي الطيّبة بمحمود حتى أبعد شبهة كونها السبب الأساسي في الطلاق.. وكان ذلك حقيقة أؤمن بها.. وحتى يدرك الجميع بمن فيهم طليقي أن زمالة العمل علاقة قائمة بذاتها، يجب عدم الخلط بينها وبين الرابطة الزوجية.. مرت شهور وعلاقتي الودودة بمحمود كما هي.. لكن الجديد الذي طرأ هو شعور كل منا بأنّه أصبح حرّاً.. بدأنا نتقارب أكثر.. اكتشفنا الحقيقة التي ظللنا طويلاً نقاوم نمو نبتتها في قلبينا.. جزعت.. ولأوّل مرة شعرت بالحزن، ليس بسبب الناس، لكن على المبدأ الذي اقتنعت به وحاربت من أجله فاعترافي بهذه العاطفة الوليدة معناه إعطاء الأسلحة للآخرين لطعني بها.. معناه تعاطف المجتمع مع طليقي.. وهكذا أكون قد خسرت أكبر قضية في حياتي.. صارحت محمود بأفكاري، قال محاولاً إقناعي، ستكون قضيتنا الجديدة إقناع الناس بحقنا في السعادة، قلت: كيف نقنعهم بأنّ علاقتنا في البداية كانت زمالة شريفة، وأنّه كان من الممكن أن تستمر دائماً داخل هذا الإطار لو لم تتخل عنّك خطيبتك، ولو لم يضعني كمال أمام خيار مهين لكرامتي.. كيف نقنعهم بأنّ الحب لم ينبت في قلبينا إلا بعد أن صار كل منّا حرّاً.. قال مستنكراً: أعرفك تكرهين اليأس.. تعتبرينه ضعفاً.. كيف تستسلمين له الآن؟ لقد انتصرت بالفعل لمبادئك يوم رفضت عبودية زوجك والدخول في سجن شكوكه وآن لك الآن أن تستعدي لمعركة أخرى تنتصرين فيها لحقك الطبيعي في الحب والزواج من جديد، دعينا إذن لا نضيع فرحتنا في السعادة خوفاً من كلام الناس، فهم لم يمدّوا لنا يدّاً إذا كتبنا على نفسينا الحرمان.. مهمة صعبة لكنّها تستحق منّا الإقدام عليها.