تحبه وتكرهه .. ؟؟
لأول مرة في حياتي أعرف حياة زوجية بهذا الشكل! هل هما يحبان بعضهما؟ أم هما ممن لا يطيق أحدهما الآخر؟ والله لا أدري· فحياة ابنتي وزوجها من العجائب التي لا يمكن فهمها أو تفسيرها· فإذا كانت تحب زوجها وهو يحبها، لماذا لا يعيشان معا في بيت واحد؟ وإذا كان يكرهها وهي لا تطيقه لماذا إذن لا يتطلقان ويريحا نفسيهما ويريحاننا معهما ؟ المشكلة في وجود طفلتين··· ما ذنبهما؟ هاتان المسكينتان لم تعرفا الحياة الأسرية مع والديهما· ومن كثرة المشاحنات والعراك الذي يسود هذه العلاقة الزوجية الشاذة، فالبنتان معي طوال الوقت· حتى أنهما لا تنادياني جدتي وإنما تنادياني يا أمي·
لقد تعبت مع ابنتي ولا أعرف سبيلا لإصلاحها ولا أدري من ألوم· هل ألومها هي أم ألوم زوجها؟ إنه ابن عمتها، تربيا معا، وهو يكبرها بثلاث سنوات، كنا نسكن قريبا من بيت أخت زوجي، وكنا مرتبطين بهم بعلاقة طيبة حتى أنها عندما ولدت ابنتي هذه قالت ضاحكة ستكون هذه البنت عروسا لولدي·
كبر الأولاد، وهم يلعبون معا بانسجام، إلا هذا الولد، فهو مختلف عن جميع الأطفال، مشاكس، عنيد، متوحش، يضرب ويؤذي غيره ولم ينفع معه لا القسوة ولا اللين ولا النصح· وكلما كبر زادت مشاكله وأذاه حتى كرهه الجميع، خصوصا ابنتي هذه التي اختارتها أمه لتكون عروسته في المستقبل· كان يضربها ويخرب كل ما تملكه من ألعاب وأشياء حتى أصبحت تفزع من مجرد وجوده في بيتنا وتظل تبكي حتى يتم إخراجه من المنزل، وهي لا تذهب إلى بيتهم خوفا منه·
عندما أدخل المدرسة ذاع صيته من كثرة مشاكله وصار الكل يشتكي منه، معلموه، زملاؤه وإدارة المدرسة والفراشون· لم يكمل دراسته بسبب رسوبه المستمر ومشاكله وطرد من المدرسة عدة مرات، حتى المدارس الخاصة لم تتحمله وتم طرده منها أيضا· آخر مرحلة وصلها كانت الإعدادية· هذا الولد كان هو السبب الذي جعل زوجي يفكر ببيع البيت بعد أن طلب نقله إلى منطقة بعيده ليسلم أولادنا من شره ومن أذاه·
لقاء بعد حين :
مرت السنوات وانقطعت أخبارهم عنا، فلم نعد نراهم إلا في المناسبات المتباعدة وقد سمعنا بأن ولدهم هذا قد تركهم وذهب إلى العاصمة كي يعمل هناك·
عندما أصبحت ابنتي في الثالثة والعشرين من عمرها وهي تدرس في السنة الجامعية الرابعة مررنا بظروف مادية صعبة بسبب تقاعد زوجي وتراكم بعض الديون علينا وكنا في وضع لا ندري ما نفعل، فالتزامات العائلة ومصاريفها في تزايد مستمر وليس لنا اى دخل إضافي نعتمد عليه غير الراتب، والأولاد كلهم لازالوا في مقاعد الدراسة· فكرنا عندها بطلب المساعدة من أخت زوجي لأن وضعهم المادي كان جيدا كما عرفنا·
لم يكن سهلا على زوجي أن يفاتح أخته في مثل هذا الأمر فتكفلت أنا بالمهمة واتصلت بها لأخبرها بأننا في حاجة شديدة لمبلغ معين لنسد به دينا عاجلا وسنعيده في أقرب فرصة إن شاء الله· لم تقصر معنا ووعدتني بإرسال المبلغ إلينا بأسرع وقت·
بعد أيام من ذلك الاتصال جاءنا شاب وسيم لم نتعرف عليه في البداية فعرّفنا بنفسه فإذا به هو نفسه أبن أخت زوجي، ذلك الصبي المزعج الشرير· لقد تغيرت وتبدلت ملامحه وأصبح رجلا يملأ العين تماما·
بعد جلسة طويلة معه عرفنا بأنه يعمل في مجال العقارات والأسهم وأن وضعه المادي جيد جدا، ثم أعطى لخاله ظرفا يحتوي على المبلغ الذي طلبناه من أمه، فشكرناه على مجيئه وإحضاره المال في الوقت المناسب·
اعتذر وانصرف وهو بغاية اللطف والأدب، ثم أصبح يتردد على خاله ويجالسه لفترات طويلة وقد كان من الواضح أنه قد بدأ بمساعدته ماديا، وأقترح على خاله فتح مشروع صغير يتكسب منه بدلا من جلوسه في المنزل بعد التقاعد·
ثورة ابنتي :
كل هذه الأمور كانت جيدة من وجهة نظرنا أنا وزوجي، ولكنها اعتبرت سيئة جدا من وجهة نظر ابنتي· فهي منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها الشاب إلى بيتنا عاشت في حالة توتر شديد وعصبية لا معنى لها· ما الذي جاء به ؟ ماذا يريد منا ؟ هل سيقدم لنا إحسانا ؟ لا نريد من هذا المخلوق أي شيء ؟ ألا تذكرين أفعاله ؟ شخصيته البشعة ؟ تصرفاته المجنونة ؟ هل يعقل أنه أنقلب رأسا على عقب كما يدعي؟ إنه كاذب، يبدو أنه يعمل في الخفاء أعمالا غير شريفة ··· ربما يسرق، أو أنه يتاجر بالمخدرات· ماله كله حرام في حرام ··· كيف يقبل والدي مثل هذا المال الحرام ؟ لماذا لا يتأكد من مصدر المال ؟ لماذا يعطيه فرصة للمجيء عندنا كل يوم؟ إنه يستغل ظروفنا المادية، وهو يرسم ويخطط· إنه يفكر في عقد صفقة مع والدي··· أنا متأكدة، وسأكون أنا الثمن· هذا هو بالضبط ما يحدث الآن، لن أقبل بهذه المهزلة، يجب أن أوقفه عند حده·
هذا الشريط كانت ابنتي تعيده وتكرره يوما بعد يوم حتى مللت من سماعه وكثرة ترديده، ولم يفد معها دفاعي عن الشاب فكانت مصرة على اتهامه بأسوأ الاتهامات طوال الوقت· أخيرا قلت لها : حسنا ··· هيا أتصلي به وأخبريه بكل ما تفكرين فيه وضعي حدا لأفكارك السوداء·
اتصلت به وكانت في غاية الانفعال ثم صارت تحكي وتحكي وهو يستمع إليها ببرود حتى أنهت كل ما لديها من أفكار وختمت حديثها بقولها: لا تحلم أبدا بأنني سأقبل بك زوجا··· أنت آخر مخلوق أفكر فيه ·· سأنتحر إن أجبروني على الزواج منك·
أجابها ببرود تام: ومن قال لك أنني أفكر بالزواج منك ؟ أنت تحلمين، ما الذي يجعلني أرتبط بإنسانة ضيقة الآفق، محدودة، أوسع ثقافة تملكها هي الكتب المدرسية والمجلات، وعالمها محصور في شاشة التلفاز، لا تعرف كيف تخطو خارج عالمها خطوة واحدة· انسانة هشة غير متماسكة لا حظ لها إلا في الشهادة الجامعية، ولا تحلم إلا بزوج يعمل مدرسا أو موظفا براتب محدود تنجب الأطفال ولا تعرف من أين تنفق عليهم، فراتبها وراتبه لا يكفيان لشيء في زمن السرعة والتطور· أريحي نفسك يا ابنة الخال فأنا لا أفكر بالارتباط بواحدة مثلك·
انقلاب عجيب :
بعد تلك الحادثة احترقت البنت وانطفأت ثم احترقت وانطفأت وصارت كالمجنونة لا تدري كيف تسترد كرامتها المنهارة ولا كيف تستعيد توازنها وعقلها· لقد أصبحت محطمة تماما تحت مطرقة كلماته تلك التي عبث فيها بكبريائها واعتدادها بنفسها·
حاولت مساعدتها على تخطي هذه الأزمة وطلبت منها أن تنسى الموضوع كله وأن لا تجعله عقدة نفسيه تؤثر على شخصيتها، أكدت لها بأنه بالتأكيد لا يقصد كل ما قاله وأنه فقط أراد أن يدافع عن نفسه ضد هجومها الغير مبرر عليه، فليس من الحكمة أن نحكم على شخصية الإنسان من تاريخه كطفل، فنحن نسمع باستمرار عن شخصيات ناجحة ومتميزة كانوا في طفولتهم فاشلين أو مشاكسين أو غير ذلك من الصفات التي يتميز بها بعض الصبية وسرعان ما كبروا وصنعوا لأنفسهم كيانا جيدا في المجتمع·
لم تستطع البنت أن تتقبل ما حدث بسهولة، فقد تغيرت تصرفاتها وأصبحت إنسانة منغلقة على نفسها ساهية معظم الوقت ولا أدري ما الذي يشغلها ويجعلها مكتئبة·
بعد مدة بسيطة أخبرني زوجي بأن أبن أخته قد فاتحه بفكرة زواجه من ابنتنا· استغربت كثيرا لهذا، فكيف يقول لها بأنه لا يفكر بها وكيف يتقدم لخطبتها؟ إنه تناقض غير مفهوم، وقد توقعت طبعا بأنها سترفضه بلا مناقشة أو جدل، ألم تكن تردد دائما بأنها لن تتزوجه وأنها ستنتحر قبل أن تجبر على ذلك؟
الشيء الغريب هو أنها لم ترفض وبقيت ساكتة وهي تخفي ابتسامة الرضا والخجل· فسألتها وأعدت سؤالي عدة مرات كي أتأكد: هل توافقين على الزواج من ابن عمتك؟ هو نفسه، هذا الذي كنت تقولين عنه كذا وكذا ؟ قالت باستحياء: ربما تسرعت في حكمي عليه· ألم تقولي لي بأن لا أتسرع في حكمي عليه··· ألم تقولي لي بأن لا أتسرع في إطلاق الأحكام؟
تزوجت ابنتي وسافرت مع زوجها في رحلة شهر العسل، وقد كان متوقعا أن تمتد تلك الرحله إلى شهر أو أكثر، ولكن ما حدث هو أنهما عادا بعد أسبوعين وكان كل منهما غاضبا بشكل كبير·
زواج عجيب :
جاء بها إلى بيتنا وأنزل حقائبها وكاد أن ينصرف، طلب منه زوجي أن يفسر لنا ما يحدث· لماذا عادا بسرعة من رحلة شهر العسل؟ ولماذا لم يذهبا إلى شقتهما؟ فأجابه بعصبية: لا أريدها إنها إنسانة مشاكسة تحب العناد، تريد أن تذلني، قضيت معها أسوأ أيام حياتي، إنها لا تحبني···تزوجتني لتؤذيني ولتنتقم مني·
قال كلماته وتركها وانصرف· أما هي فقد بكت كثيرا واتهمته بقلة الذوق والأنانية والبخل وأعلنت ندمها الكامل لأنها تزوجته·
كان الموقف صعبا علينا جدا، فكيف نتصرف مع ابنتنا وهي لم تعرف كيف تساير زوجها حتى في شهر العسل، وهل يمكن أن يطلقها؟ إنه أمر في غاية الصعوبة· ماذا سيقول الناس لو طلقها زوجها وهما لا يزالان في شهر العسل؟
مرت ثلاثة أيام هدأت البنت وارتاحت أعصابها فاتصلت بزوجها وتحدثت معه طويلا· كانت في بداية الحديث تصرخ بانفعال ثم في النهاية خفت حدة عصبيتها وصارت تضحك حتى أغلقت الخط ثم بدأت تتزين وترتب أغراضها وهي تقول: سيأتي زوجي ليأخذني إلى شقتنا·
منذ ذلك اليوم بدأت قصة هذه الحياة الزوجية الغريبة، تذهب ابنتي لبيتها ليوم واحد أو يومين ثم تعود وهي تبكي وتشتكي وتبقى في بيتنا لفترة ثم تتصل به أو يتصل بها فيتحدثان طوال الوقت حتى يتراضيا فتحمل أشياءها وتعود لبيتها فلا تمكث فيه إلا لفترة يسيرة لتعود بعدها مرة أخرى·
على هذا الحال أنجبت طفلتيها وقد مرت سبع سنين وحال هذه الأسرة لا ينصلح أبدا·
بعد أن أنهت دراستها توظفت وانشغلت لفترة بأجواء العمل الجديدة وهدأت في علاقتها مع زوجها وبقيت في بيتها ستة أشهر متواصلة ولكنها بعد أن اعتادت على أجواء الوظيفة عادت إلى أسلوبها الاستفزازي معه· تغار عليه غيرة عمياء، تستجوبه طوال الوقت، تتابعه وتسبب له الإحراج مع الناس فيتعارك معها ويغضبها فتعود إلينا وهي تبكي وتنتحب·
حاولنا نصحها ولكنها لا تستمع للنصيحة ولا تتأثر بأقوالنا وملاحظاتنا· لا تريد أن تهنأ بحياتها مع زوجها وهي تفضل الخصام والزعل والبعد عن بيتها بدلا من الاستقرار والاطمئنان·
بالنسبة لنا أنا ووالدها فإننا قد استلمنا مهمة تربية البنتين فتعلقنا بهما تعلقا شديدا واصبحتا بهجة حياتنا فلم نعد نكترث لابنتنا مادامت لا ترغب في الاستقرار فتركناها تتصرف كما تشاء مع زوجها·
الغريب هو أنه لازال متمسكا بها ولا يطلقها ولم يفكر بأن يتزوج عليها، وهو شبه راض بكل ما تفعله به· وهو يتركها تخرج وتعود لبيتها كما شاءت ولا يجبرها على البقاء ولا يهددها بالطلاق· ربما كان يحبها، وربما تحبه ··· والله لا أدري·
فجأة أجدها تتزين وتلبس أجمل ما لديها وتتصل به فتخبره بأنها تريده لأمر هام وأنها تنتظره في شقتهما فتذهب إلى هناك وتلتقي به ثم تبقى معه يوما أو يومين وتعود وهي ساخطة عليه تسبه وتلعنه ولا تجد فيه خيرا ولكنها ترفض مجرد التفكير بالطلاق·
ترسل له ''المسجات'' الرقيقة وتهدي له الأغنيات وكأنهما عاشقان، وهو يرسل لها باقات الورد وقصائد الشعر الغزلية ··· يفعلان كل ذلك ولكنهما لا يستطيعان العيش تحت سقف واحد· أليس هذا عجيبا؟
لقد فقد هذان الزوجان المعنى السامي للزواج وهو أن يكون سكنا لها وتكون هي سكن له، السكن هو الإحساس بالاستقرار والطمأنينة في بيت الزوجية· إنهما يعيشان حالة التشرد الزوجي وكأنهما عازبان، والضحية في هذا الوضع المقلوب هما الطفلتان اللتان لم تحسا بالاستقرار النفسي مع والديهما· للأسف فإن الزمن قد تغير وأصبح زمنا للعجائب·