ولِخُطورة شأن الاحتساب وإقامة المؤمن على درْب التوكُّل الشرعي، تعدَّدت الآيات التي تأمُر بالاحتساب، وتحثُّ على الحسبَنَة، وتُثنِي على المحتسِبين المحسِنين:
1- تارة يُثِير القرآن بنداء النبوَّة كلَّ قوى العزْم في نبيِّه - عليه الصلاة والسلام - ثم يُلقِي إليه أنَّه مولاه وكافِيه وعاصِمُه؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 64][ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
هكذا يُؤصِّل القرآن الكريم معاني الرِّفعة والعزَّة والعفَّة، وإسلام الوجْه للمَولَى في قُلُوب المؤمنين، وبأجنحة هذه المعاني الأصيلة يُحلِّق المؤمنون ليبلغوا مقام (حَسبُنا اللهُ)، ونفحات هذا المقام (حَسبُنا اللهُ) سنيَّة، رخيَّة الشذى، عزيزة المَنال على غير المؤمنين.
ورُسُلُ الله من هذا المقام كانوا يُواجِهون الجاحِدين، ويُخاطبونهم ولكنْ باللغة التي يفهمونها، كانوا يُعبِّرون عن اكتِفائهم بالله، وقَناعتهم بنفحات مقام (حَسبُنا اللهُ)، بمثل: ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [هود: 51].
ب- وليُعمِّق جُذور هذه المعاني في النُّفوس يُؤكِّدها بالأسلوب التلقيني مُوحِيًا بأنَّ التطلُّع إلى ما يحتازه الناس تطفُّل وتكلُّف لا يَلِيق بالأنبياء؛ ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86].
استطراد:
والتكلُّف هو تخرُّص ما لم نُؤمَر به، والتشدُّق بما لم نُحِطْ به علمًا، والتكلُّف بمعنيَيْه كريهٌ مرفوضٌ، وصحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي الله عنهم - منذ وقَفُوا على قول الله: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86] ظلُّوا يتناصَحُون بالاعتدال ويتناهَوْن عن التكلُّف، ويربَؤُون بالنَّفس المؤمنة أنْ تُذكَر في عداد المتكلِّفين.
رُوِي عن ابن مسعودٍ - رضِي الله عنه - أنَّه قال: مَن سُئِل عمَّا لا يعلم، فليقل: لا أعلم، ولا يتكلَّف؛ فإنَّ قوله: (لا أعلم) علمٌ، وقد قال الله لرسوله: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86].
وممَّا رُوِي: للمتكلِّف ثلاث علامات:
الأولى: (أنَّه يُنازِع مَن فوقه) ومعنى ذلك: أنَّه غرٌّ جَهُول يتجاوَز حجمَه ولا يعرف قدرَ نفسه.
والثانية: (أنَّه يَتعاطَى ما لا يَنال) ومعنى ذلك: أنَّه يهفو إلى السَّراب، ويُمسِي ويُصبِح كالكلب إنْ تحمل عليه يلهث أو تترُكه يلهث، ومَن بات كذلك فقد أذلَّ نفسه؛ إذ حمَّلَها ما لا تطيق، وصدَق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا ينبغي للمؤمن أنْ يذلَّ نفسه))، قالوا: وكيف يذلُّ نفسه يا رسول الله؟ قال: ((يتحمَّل من البلاء ما لا يُطِيق)).
والثالثة: (أنَّه يقول ما لا يعلم) ومعنى هذا: أنَّه يُخالِف صريحَ الإسلام الذي يُحتِّم على المسلم أنْ يصدر فيما يقول ويفعل عن علمٍ؛ ائتمارًا بقوله - سبحانه -: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36]، وقوله - سبحانه -: ﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ... ﴾ [الأنعام: 143]، وقوله - سبحانه -: ﴿ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [آل عمران: 66].
والذي يتزَحزَح عن العلم إمَّا أنْ يبني على الخرص والظن، والظنُّ لا يغني عن الحقِّ شيئًا، والقُرآن يشجب كلَّ منطلق أو أمرٍ عِمادُه الظن: ﴿ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الزخرف: 20]، ﴿ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [الجاثية: 24]... إلى غير ذلك من الآيات.
وإمَّا أنْ يهوي إلى غَيابة الجهل؛ فيرجم بالغيب، ويهرف بالحمق، ويفتري الكذب، ويقَع تحت طائلة الآيات التي تتهدَّد الراجمين، وتُنذِر المغترِّين، وما أكثرها!
وأولئك الذين يتأوَّلون القُرآن بغير علم، ويتقوَّلون على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويبتَدِعون قِيَمًا تُخالِف طبيعةَ الإسلام، ويستَولِدون مثلَ قول الله: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى: 23] ولائدَ ممسوخة... إلخ، أولئك هم المتكلِّفون.
والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُنزَّه عن التكلُّف، وهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنْ سأَلَ الأشحَّة المُشرِكين مادَّة أو معنًى فقد تَعاطَى ما لا يَنال، وأهدَرَ وقت الدعوة سُدًى، وحاشاه أنْ يكون كذلك!
وإذا تأكَّد سموُّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن التكلُّف، وثبَت ترفُّعه عمَّا في حوزة الناس - أمكنَنَا أنْ نرى المحاجة القويَّة التي تَكمُن وَراء ذلك الاستفهام الإنكاري التهكُّمي الذي صُدِّرتْ به آيةٌ من الآيات التي تنفي عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يسأل أجرًا؛ ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ﴾ [الطور: 40][ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
نعم؛ إذا تأكَّدتْ نَزاهة رسول الله حُقَّ للقُرآن أنْ يُندِّد بالناكِصين الأشحَّاء، وحُقَّ له أنْ يُشِيد بما أعدَّ الله لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ﴾ [الفرقان: 10].
حُقَّ له أنْ يقول: ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 72]، وذلك في سِياق آيات تُسفِّه الأحلام، وتزدَرِي الأهواء التي لا يُقاسُ بها حقٌّ، ولا يقومُ عليها صَلاحٌ؛ ﴿ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ... ﴾ [المؤمنون: 70 - 72].
أي: لو كان الحقُّ ما تَراه الأهواء المختلفة المتضارِبة، لفَسَد نظام العالَم، ولو نزل القُرآن بما يرَوْن ويهوون، لفسدت السماوات والأرض ومَن فيهنَّ.
والذين يريدون أنْ يجري الحقُّ وفْق أهوائهم حَمقَى لا يندبون لمكرمة، ولا يُسأَلون (بالبناء للمجهول) مَحمَدة، طالما ظلُّوا عبيدَ الهوى وأسرى الشَّهوات.
والرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكلِّ ما جاء به يريدُ أنْ يفصم العُرَى التي تشدُّهم إلى الشَّهوات والأهواء، وهو حِين يُذكِّرهم الرَّحِم، ويسأَلُهم المودَّة في القُربَى، إنما يُحرِّك كامنَ الخير، ويُثِير وشائج الدَّم الآسِن (الخامد) بين الجوانح؛ لعلَّه - إنْ نجح في إثارة الكوامن - أنْ يستَنقِذهم من نير الهوى وأغلال الشهوة، وإسار التقاليد.
وبذرة الخير كامنةٌ في كلِّ بني الإنسان، فإنْ تُعهِّدت برِفق وأولِيَتْ حتى ترقَّ وتنفلق، أينعَتْ وازدَهرتْ، وأثمرتِ الخيرَ الغامر الذي يعمُّ مَرافِق الحياة وجوانب المجتمع.
وابتِغاء هذا كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُناشِدهم الرَّحمة ويسأَلُهم المودَّة، ويُمنِّيهم بخير الدارين.
مفهوم الظرفية ﴿ فِي الْقُرْبَى ﴾:
وإذا رجعنا البصر في الآية الكريمة ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى: 23]، تبيَّنَّا أنَّنا أمام أسلوبٍ فريدٍ جُعِلتْ فيه كلمة (القُربَى) ظرفًا للمودَّة، والمُتَتبِّع لاستعمالات كلمة (القُربَى) في القُرآن يرى أنها لم تَرِدْ إلا مسبوقةً بمضافٍ هو (ذو) منصوبة أو مجرورة، مفردة أو مجموعة أو مسبوقة بـ(أولو) مرفوعة أو منصوبة، وتستحضر مثل قول الله؛ ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ... ﴾ [الإسراء: 26]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [النحل: 90]، ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ﴾ [البقرة: 177]، ﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ﴾ [النساء: 8]، ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى... ﴾ [التوبة: 113] إلخ.
إذًا لماذا انفَردتْ آيتُنا بهذا الاستعمال؟ ولِمَ سُبِقتْ كلمة ﴿ القُربَى ﴾ هنا بالظرف ﴿ في ﴾ الذي أفاد أنَّ القرابة وعاءٌ للمودة؟ وهلاَّ قيل: إلا المودَّة لذي القُربَى أو لذَوِي القرابة؛ حتى يلتقي التعبير مع سائر المواقع الأخرى؟
لا ريب أنَّ وَراء هذا الاستعمالِ الفريد سرًّا؛ فالقرآن المُعجِز يفرد الكَلِم بميزان ويجمَعُها بميزان، ويُضِيف بميزان ويُجرِّد بميزان، ويُعرِّف بميزان ويُنكِّر بميزان، ويجرُّ الكلمة بقدر ويجعلها ظرفًا ومظروفًا بقدر، ونرجو أنْ نَتدارَس في العدد القادم أمرَ هذا التعبير الفريد - إنْ شاء الله.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] أرواح من نفحات ﴿ تَبَّتْ يَدَا ﴾ [المسد: 1] تدحَضُ الفِرَى (جمع فرية)، وتُؤكِّد أنَّ الإسلام دِين حَياةٍ تقومُ على العدالة والإحسان، والفُرصة المتكافئة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] (مَن اتَّبعك) معطوفة على لفظ الجلالة، ولا يقدح هذا في حقيقة التوكُّل؛ لأن المؤمنين أداة من أدوات نصرة الله لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذُكِروا على سبيل الامتنان والتبصير بنعمة الله الماثلة، متمثِّلة في المؤمنين.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] لا يتكلَّفون بذلاً، ولا يتحمَّلون مغارم، بل هم الغانمون الظافرون. [/b]
waled22 عضو فعال
جـنـسـي : مـشـاركـاتـي : 51
موضوع: رد: سلسلة / نفحات قرآنية (19) 2013-03-20, 01:24
سلمت الايادي الطيبة اخي الكريم........ في الابداع والتواصل المستمر في نشر الجديد والمفيد أُحييك على اختيارك الرائع والمميز.. تحياتي لك