الحجاج بن يوسف الثقفي
احتل الحجاج بن يوسف الثقفي مكانة متميزة بين أعلام الإسلام، ويندر أن تقرأ كتابًا في التاريخ أو الأدب ليس فيه ذكر للحجاج الذي خرج من سواد الناس إلى الصدارة بين الرجال وصانعي التاريخ بملكاته الفردية ومواهبه الفذة في القيادة والإدارة.
ولد أبو محمد الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل بن الحكم الثقفي في منازل ثقيف بمدينة الطائف، في عام الجماعة 41هـ. وكان أسمه كليب ثم أبدله بالحجاج. وأمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي الصحابي الشهيد.
تتلمذ علي يد سعيد بن المسيب التابعي الجليل وغيره من كبار العلماء والتابعين.
عمل معلما للصبيان يعلمهم القران والحديث ولم يكن هذا العمل يلبي طموحاته علي الرغم من ان عمله هذا كان ذو تأثير كبير علي حياته فقد كان معظما للقران طيلة حياته .والحقيقة ان الكثير يضع هذه المعلومة ويمضي ولكن مع انضباط الحجاج في ذلك الوقت ولم يوصف بزلة وأري أن هذا العمل الجليل دليل أكيد وواضح علي انه يعرف الدين وحدوده .كانت الطائف تلك الأيام بين ولاية عبد الله بن الزبير، وبين ولاية الأمويين، لكن أصحاب عبد الله بن الزبير تجبروا على أهل الطائف، فقرر الحجاج الانطلاق إلى الشام، حاضرة الخلافة الأموية المتعثرة، التي تركها مروان بن الحكم نهباً بين المتحاربين.
سفرة الى الشام
قد تختلف الأسباب التي دفعت الحجاج إلى اختيار الشام مكاناً ليبدأ طموحه السياسي منه رغم بعد المسافة بينها وبين الطائف، وقرب مكة إليه، لكن يُعتقد أن السبب الأكبر كراهته لولاية عبد الله بن الزبير.
في الشام، التحق بشرطة الإمارة التي كانت تعاني من مشاكل جمة، منها سوء التنظيم، واستخفاف أفراد الشرطة بالنظام، وقلة المجندين. فأبدى حماسة وانضباطاً، وسارع إلى تنبيه أولياء الأمر لكل خطأ أو خلل، وأخذ نفسه بالشدة، فقربه روح بن زنباع قائد الشرطة إليه، ورفع مكانته، ورقاه فوق أصحابه، فأخذهم بالشدة، وعاقبهم لأدنى خلل، فضبطهم، وسير أمورهم بالطاعة المطلقة لأولياء الأمر.
وأريد أن أنبه علي ان بعض من كتب عن الحجاج يلقي بهذه المعلومة ثم ينصرف عنها ولا يلقي لها بالا واني لأرجو أن أنصف الرجل في ذلك , الكل اتفق أن الشرطة كانت في حال متردية حتى أهمت الخليفة فلما تولاها الحجاج ما الذي حدث استقامت وأصبحت علي أحسن حال وأصبح أداؤها في القمة ، لم يضع الحجاج اعتبارا لأحد فكان تطبيق القانون وإصلاح الحال هو الهدف فأبطل الرشاوى والتقاعس من الشرطة ولم يسمح لأحد ان يتخطي القانون أو يتجاوزه حتى ولو كان من كبار الشرطة .والمتأمل لشخصية الحجاج في هذه يري ان الحجاج رجل دولة حقيقي يطمح في إقامة القانون والعدل وان تسير أمور الدولة علي أحسن حال وفي غاية الاستقامة ومن منا لا يرغب في ذلك .
وهذا شأن المخلصين الجادين الذين يهمهم إصلاح الحال وانضباط الأحوال فهو رجل دولة بالمعني الصحيح بهمه أمرها ويشقي لصلاحها ولا يحابي أحدا في مصلحة الدولة العليا فهي فوق كل اعتبار وفوق الجميع حتى وان تصادم في ذلك مع علية القوم .
فجاء الحجاج يوماً على رؤوسهم وهم يأكلون، فنهاهم عن ذلك في عملهم، لكنهم لم ينتهوا، ودعوه معهم إلى طعامهم، فأمر بهم، فحبسوا، وأحرقت سرادقهم. فشكاه روح بن زنباع إلى الخليفة، فدعا الحجاج وسأله عما حمله على فعله هذا، فقال إنما أنت من فعل يا أمير المؤمنين، فأنا يدك وسوطك، وأشار عليه بتعويض روح بن زنباع دون كسر أمره.
وكان عبد الملك بن مروان قد قرر تسيير الجيوش لمحاربة الخارجين على الدولة، فضم الحجاج إلى الجيش الذي قاده بنفسه لحرب مصعب بن الزبير.
ولم يكن أهل الشام يخرجون في الجيوش، فطلب الحجاج من الخليفة أن يسلطه عليهم، ففعل. فأعلن الحجاج أن أيما رجل قدر على حمل السلاح ولم يخرج معه، أمهله ثلاثاً، ثم قتله، وأحرق داره، وانتهب ماله، ثم طاف بالبيوت باحثاًً عن المتخلفين. وبدأ الحجاج بقتل أحد المعترضين عليه، فأطاع الجميع، وخرجوا معه، بالجبر لا الاختيار.
في 73هـ قرر عبد الملك بن مروان التخلص من عبد الله بن الزبير، فجهز جيشاً ضخماً لمنازلة ابن الزبير في مكة، وأمر عليه الحجاجبن يوسف، فخرج بجيشه إلى الطائف، وانتظر الخليفة ليزوده بمزيد من الجيوش، فتوالت الجيوش إليه حتى تقوى تماماً، فسار إلى مكة وحاصر ابن الزبير فيها، ونصب المنجنيقات على جبل أبي قبيس وعلى قعيقعان ونواحي مكة كلها، ودامت الحرب أشهراً. وقتل فيها ابن الزبير، فتفرق على ابن الزبير أصحابه، ووقعت فيهم الهزيمة.
أعلن الحجاج الأمان لمن سلم من أصحاب ابن الزبير، وأمنه هو نفسه، غير أن عبد الله بن الزبير لم يقبل أمان الحجاج، وقاتل رغم تفرق أصحابه عنه طمعاً في أمان الحجاج فقتل. وكان لابن الزبير اثنتان وسبعون سنة، وولايته تنوف عن ثماني سنين، وللحجاج اثنتان وثلاثون سنة.
ولا ننسى ان الحجاج عرض الا مان على عبد الله بن الزوبير لكنة رفض
ولاية الحجاج على الحجاز
بعد أن انتصر الحجاج في حربه على ابن الزبير، أقره عبد الملك بن مروان على ولاية مكة وأهل مكة.وكان وإياهم وأهل المدينة على خلاف كبير، في 75 هـ حج عبد الملك بن مروان، وخطب على منبر النبي، فعزل الحجاج عن الحجاز لكثرة الشكايات فيه، وأقره على العراق.
راجع الحجاج الى قصر امير المومنين وولا على العرق
ولا ية الحجاج على العراق
دامت ولاية الحجاج على العراق عشرين عاماً، وفيها مات. وكانت العراق عراقين، عراق العرب وعراق العجم، فنزل الحجاج بالكوفة، وكان قد أرسل من أمر الناس بالاجتماع في المسجد، ثم دخل المسجد ملثماً بعمامة حمراء، وأعتلى المنبر فجلس وأصبعه على فمه ناظراً إلى المجتمعين في المسجد فلما ضجوا من سكوته خلع عمامته فجأة وقال خطبته
التى بداهها يقول
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفونى
ثم قال يأهل الكوفة أما والله إني لأحمل الشر بحمله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله وإني لأري أبصارا طامحة وأعناقا متطاولة ورءوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقرق ثم قال :
هذا أوان الشد فاشتدي زيم قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبي أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساقها فشدواوجدت الحرب بكم فجدوا
وليس القوس فيها وتر عردمثل ذراع البكر أو أشد
لا بد مما ليس منه بد
إني والله يأهل العراق ومعدن الشقاق والنفاق ومساوي الأخلاق ما يقعقع لي بالشنان ولا يغمز جانبي كتغماز التين ولقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وجريت إلى الغاية القصوى وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه فعجم عيدانها فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتن واضطجعتم في مراقد الضلال وسننتم سنن الغي أما والله لألحونكم لحو العصا ولأقرعنكم قرع المروءة ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وإني والله لا أعد إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت فإياي وهذه الشفعاء والزرافات والجماعات وقالا وقيلا وما تقول وفيم أنتم وذاك
أما والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا سفكت دمه وأنهبت ماله وهدمت منزله
فلما كان اليوم الثالث خرج من القصر فسمع تكبيرا في السوق فراعه ذلك فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال :
يأهل العراق يأهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق وبني اللكيعة وعبيد العصا وأولاد الإماء والفقع بالقرقر إني سمعت تكبيرا لا يراد الله به وإنما يراد به الشيطان ألا إنها عجاجة تحتها قصف وإنما مثلي ومثلكم ما قال عمرو بن براق الهمذاني :
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم فهل أنا في ذايا لهمدان ظالم
متى تجمع القلب الذكي و صارما و أنفا حميا تجتنبك المظالم
والله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الدابر
وخطب لما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم فقال:
أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه ومن استطال أجله فعلي أن أعجله ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا وللسلطان سيفا فمن سقمت سريرته صحت عقوبته ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ومن سبقته بادرة فمه سبق بدنه بسفك دمه
إني أنذر ثم لا أنظر وأحذر ثم لا أعذر وأتوعد ثم لا أعفو إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم ومن استرخى لببه ساء أدبه إن الحزم والعزم سلباني سوطي وأبدلاني به سيفي فقائمه في يدي ونجاده في عنقي وذبابه قلادة لمن عصاني والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه .
وبين في خطبته سياسته الشديدة، وبين فيها شخصيته، كما ألقى بها الرعب في قلوب أهل العراق. ومن العراق حكم الحجاج الجزيرة العربية، فكانت اليمن والبحرين والحجاز، وكذلك خراسان من المشرق تتبعه، فقاتل الخوارج، والثائرين على الدولة الأموية في معارك كثيرة، فكانت له الغلبة عليهم في كل الحروب، وبنى واسط، فجعلها عاصمته.
وحرب الخوارج.
حروب الخوارج
في عام 76هـ وجه الحجاج زائدة بن قدامة الثقفي لقتال شبيب الشيباني البكري الوائلي، فكانت الغلبة لشبيب. وفي السنة التي تلتها بعث الحجاج لحرب شبيب: عتاب بن ورقاء الرباحي، الحارث بن معاوية الثقفي، أبو الورد البصري، طهمان مولى عثمان. فاقتتلوا مع شبيب في سواد الكوفة، فقتلوا جميعاً، وعندها قرر الحجاج الخروج بنفسه، فاقتتل مع شبيب أشد القتال، وتكاثروا على شبيب فانهزم وقتلت زوجته غزالة الحرورية وكانت تقود النساء الخارجيات ويروى انها نذرت ان تصلى ركعتين في مسجد الكوفة والحجاج بها تقراء فيهما سورتى البقرة وآل عمران ووفت بنذرها في حماية 70 من جند الخوارج ولم يستطع الحجاج منعها وقيل في ذلك الكثير من أبيات الشعر ومن أشهرها: "وفت غزالة نذرها رب لا تغفر لها" وواجهتة وخاف منها وقيل فى ذالك أسدٌ عليَّ وفي الحروبِ نعامة
رَبـداء تجـفـل مـن صـفـير الصـافرِ
هلاّ برزتَ إلى غزالة في الوغى
بـل كـان قـلـبـك في جـنـاحي طائر
صدعت غزالة قلبه بفوارس
تـركـت مـدابـره كأمـــس الدابرِ
، فهرب شبيب إلى الأهواز، وتقوى فيها، غير أن فرسه تعثر به في الماء وعليه الدروع الثقيلة فغرق. وقضى الحجاج على من بقي من أصحابه.
ثورة بن الجارود
بحشد الجيوش مع المهلب بل خرج في أهل البصرة والكوفة إلى "رشتقباذ" ليشد من أزر قائده المهلب ويساعده إن احتاج الأمر إلى مساعدة، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ حدثت حركة تمرد في صفوف الجيش، وتزعم الثورة رجل يدعى "ابن الجارود" بعد أن أعلن الحجاج عزمه على إنقاص المحاربين من أهل العراق 100 درهم، ولكن الحجاج تمكن من إخماد الفتنة والقضاء على ابن الجارود وأصحابه.
في 79 هـ أو 80 هـ قُتل قطري بن الفجاءة رأس الخوارج، وأُتي الحجاج برأسه، بعد حرب طويلة.
ثورة ابن الاشعثفي 80هـ ولى الحجاج عبد الرحمن بن محمد الأشعث على سجستان، وجهز له جيشاًوسماة جيش الطواويس عظيماً للجهاد. فلما استقر ابن الأشعث بها خلع الحجاج، وخرج عليه، وكان ذلك ابتداء حرب طويلة بينهما. وفي 81هـ قام مع الأشعث أهل البصرة، وقاتلوا الحجاج يوم عيد الأضحى، وانهزم الحجاج، فقيل كانت أربع وثمانون وقعة في مائة يوم، ثلاث وثمانون على الحجاجوالباقية له. وفي 82هـ استعرت الحرب بين الحجاج وابن الأشعث، وبلغ جيش ابن الأشعث مبلغاً كبيراً من القوة والكثرة، ثم جاءت سنة 83هـ وفيها وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث.
كانت من أكثر الوقائع هولاً في تاريخ الحجاج، وفيها كان له النصر على الثوار من أصحاب ابن الأشعث. وقُتل خلق كثير فيها، وغنمالحجاج شيئاً كثيراً.
وفيها ظفر الحجاج بكل أصحاب ابن الأشعث، بين قتيل وأسير، إلا ابن الأشعث، فقد هرب، لكن أصحاب الحجاج ظفروا به في سجستان فقتلوه، وطيف برأسه في البلدان.
بعد أن قطع الحجاج دابر الفتنة، وأحل الأمن والسلام إلى استئناف حركة الفتوحات الإسلامية التي توقفت بسبب الفتن والثورات التي غلت يد الدولة، وكان يأمل في أن يقوم الجيش الذي بعثه تحت قيادة ابن الأشعث بهذه المهمة، وكان جيشا عظيما أنفق في إعداده وتجهيزه أموالا طائلة حتى أُطلق عليه جيش الطواويس، لكنه نكص على عقبيه وأعلن الثورة، واحتاج الحجاج إلى سنوات ثلاثة حتى أخمد هذه الفتنة العمياء.
وبعد ذلك عاود سياسة الفتح، وأرسل الجيوش المتتابعة، واختار لها القادة الأكفاء، مثل قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي ولاه الحجاجخراسان سنة (85هـ)، وعهد إليه بمواصلة الفتح وحركة الجهاد؛ فأبلى بلاء حسنا، ونجح في فتح العديد من النواحي والممالك والمدن الحصينة، مثل: بلخ، وبيكند، وبخارى، وشومان، وكش، والطالقان، وخوارزم، وكاشان، وفرغانه، والشاس، وكاشغر الواقعة على حدود الصين المتاخمة لإقليم ما وراء النهر وانتشر الإسلام في هذه المناطق وأصبح كثير من مدنها مراكز هامة للحضارة الإسلامية مثل بخارى وسمرقند.
وفي المدة التي أمضاها الحجاج في ولايته على العراق قام بجهود إصلاحية عظيمة، ولم تشغله الفترة الأولى من ولايته عن القيام بها، وشملت هذه الإصلاحات النواحي الاجتماعية والصحية والإدارية وغيرها؛ فأمر بعدم النوح على الموتى في البيوت، وبقتل الكلاب الضالة، ومنع بيع الخمور، وأمر بإحراق ما يوجد منها، وعندما قدم إلى العراق لم يكن لأنهاره جسور فأمر ببنائها، وأنشأ عدة صهاريج بالقرب من البصرة لتخزين مياه الأمطار وتجميعها لتوفير مياه الشرب لأهل المواسم والقوافل، وكان يأمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة لتوفير مياه الشرب للمسافرين.
وساعد الحجاج في تعريب الدواوين، وفي الإصلاح النقدي للعملة، وضبط معيارها، وإصلاح حال الزراعة في العراق بحفر الأنهار والقنوات، وإحياء الأرض الزراعية، واهتم بالفلاحين، وأقرضهم، ووفر لهم الحيوانات التي تقوم بمهمة الحرث؛ وذلك ليعينهم على الاستمرار في الزراعة.
كذلك من أعماله الكبيرة بناء مدينة واسط بين الكوفة والبصرة، واختار لها مكانا مناسبا، وشرع في بنائها سنة (83هـ) واستغرق بناؤها ثلاث سنوات، واتخذها مقراً لحكمه.
و كان يدقق في اختيار ولاته وعماله، ويختارهم من ذوي القدرة والكفاءة، ويراقب أعمالهم، ويمنع تجاوزاتهم على الناس، وقد أسفرت سياسته الحازمة عن إقرار الأمن الداخلي والضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطرق.
ومن أهم الأعمال التي تنسب إلى الحجاج اهتمامه بنقط حروف المصحف وإعجامه بوضع علامات الإعراب على كلماته، وذلك بعد أن انتشر التصحيف؛ فقام "نصر بن عاصم" بهذه المهمة العظيمة، ونُسب إليه تجزئه القرآن، ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه، ورغّب في أن يعتمد الناس على قراءة واحدة، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار.
ويا حجاجاة
جلس "الحجاج بن يوسف الثقفي" والي "العراق" في قاعة حكمه يحيط به كبار رجال دولته وزعماء جنده، يتبادلون الحديث ويتناقشون في أمور الدولة، ويفكرون فيما يصلح شؤون الناس .. فدخل أحد رجال "الحجاج" وهمس في أذن "الحجاج" بشيء لم يسمعه جلساؤه، فانقطع عن الحديث وقال بصوت قوى : أدخله على الفور.
تقدم حامل البريد برسالة وقال للحجاج : هذه رسالة عاجلة أتى بها صاحب البريد منذ لحظات قليلة من بلاد "السند"، فأمسك "الحجاج" بالرسالة، وراح يقرؤها، وما كاد ينتهي من قراءتها حتى هب واقفًا في غضب، فانزعج الحاضرون، وقال أحدهم :
أصلح الله الوالي .. ما الذي في الرسالة حتى أغضبك؟! هل حدث مكروه للخليفة "الوليد بن عبد الملك"؟ هل اعتدى أحد من أعدائنا على جزء من أراضى الدولة ؟
سكت الحجاج للحظات ثم انفجر في ثورة غاضبة .. وأخذ يحكى لهم ما في الرسالة قائلاً : بعث إلينا ملك جزيرة "سرى لانكا" بسفن محملة بالهدايا، وكان عليها بعض النساء المسلمات، وفى الطريق هجم عليها قراصنة من مدينة "الدَّيْبُل" (ميناء عند مصب نهر السند بباكستان) ونهبوا ما فيها من هدايا وأخذوا المسلمات أسرى .
ولما هدأ "الحجاج" كتب رسالة إلى "داهر" ملك "السند" يطلب منه أن يطلق سراح المسلمات الأسيرات، لكن ملك "السند" عجز عن استرداد الأسيرات، وبعث إلى "الحجاج" يخبره بذلك ويقول له : إن الأسيرات في أيدي لصوص أقوياء، لا أقدر على استخلاصهن من أيديهم، ولم يقتنع "الحجاج" برد ملك "السند"، وعزم على تأديب هؤلاء القراصنة، وإعادة الهيبة للمسلمين، وبعث بحملة عسكرية لقتال هؤلاء القراصنة، لكنها لقيت هزيمة شديدة على أرض "السند"، فأرسل بحملة أخرى، لكنها فشلت في تأدية مهمتها .
أدرك "الحجاج" بذكائه بعد فشل حملاته الصغيرة على أرض "السند" أن الأمر يحتاج إلى تفكير وتخطيط؛ حتى لا يستهين الأعداء بهيبة الدولة، فعزم على إرسال جيش كبير يفتح بلاد "السند"، وينشر الإسلام فيها، ويخلص أهلها من ظلم الحكام الظالمين، وفى الوقت نفسه يؤمن حدود الدولة الإسلامية، وطرق التجارة، فأرسل إلى الخليفة الأموي في "دمشق" "الوليد بن عبد الملك" يستأذنه في تجهيز هذا الجيش... و استغرق "الحجاج" شهورًا في إعداد الجيش، وإمداده بآلاف الجند من ذوى الخبرة والشجاعة، وزودهم بأقوى الأسلحة، والمؤن والأطعمة التي تكفيهم في حملتهم .
وبعد أن أتم تجهيز الجيش بدأ يفكر في اختيار قائد لهذه الحملة، وراح يستعرض أسماء القادة الذين تحت يديه، حتى يختار من بينهم واحدًا يصلح لهذه المهمة، ثم استقر اختياره على ابن عمه "محمد بن القاسم" وكان نجمه قد بدأ في الصعود على الرغم من أن سنه لم تتجاوز العشرين ، فقد عرف بالقوة والشجاعة والمهارة في وضع الخطط العسكرية، ومتابعة تنفيذها، والقدرة على قيادة الجند نحو النصر، والصبر في القتال والثبات في ميادين القتال، وسرت أنباء اختيار "محمد بن القاسم" لقيادة الحملة، فاستبشر الجند خيرًا، وازدادت الثقة بنصر الله واطمأنوا إلى تحقيق النصر، وراح القائد الشاب يراجع استعدادات جيشه، ويضع الخطط العسكرية، ويدرس عدوه، ويعرف مواطن القوة فيه والضعف، حتى إذا اطمأن أن كل شيء على ما يرام أمر جنده بالرحيل .
انطلق الجيش نحو هدفه يرج الأرض رجًّا، وتتعالى في السماء صيحات التكبير حتى وصل إلى "مكران" فاستراح بها الجند عدة أيام، وبدأ القائد الشاب في تقسيم جيشه إلى قسمين، أحدهما يسلك طريق البر، والآخر يسلك طريق البحر .
ثم تحرك "محمد بن القاسم" إلى مدينة "الدَّيْبُل"، وبدأ في حصارها، وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة (89ه)، وفى الوقت نفسه وصلت السفن الإسلامية تحمل الجند والعتاد والأسلحة، وضرب حول المدينة حصارًا محكمًا.
وأعطى القائد أوامره للجنود بضرب المدينة بالمنجنيق، وأن يركزوا ضرباتهم على الصنم الكبير الذي يعبده أهل المدينة ويقدسونه، وكانوا يطلقون عليه "بُدّ"، وتهاوى الصنم العملاق تحت ضربات المنجنيق، الذي كان يطلق أحجارًا ضخمة تمكنت من هدم ذلك الصنم .
وتسلق الجنود البواسل أسوار المدينة مستخدمين السلالم المصنوعة من الجبال، وتمكن المسلمون بعد ثلاثة أيام من الحصار الشديد أن يقتحموا المدينة، ويتدفقوا إلى داخلها كالسيل الجارف، بعد أن هرب جنود "داهر" ملك "السند" .
ودخل المسلمون المدينة، وعاملوا أهلها بكل عدل وإحسان، وقام "محمد بن القاسم" بتخطيط معسكر للمسلمين بالمدينة، وبنى بها مسجدًا، وجعل منها قاعدة بحرية للمسلمين في المحيط الهندي .
وبعد أن اطمأن "محمد بن القاسم" إلى استقرار الوضع في مدينة "الدَّبْيُل" ترك بها حامية إسلامية، وقاد جيشه ليتابع الفتح، مدينة.. مدينة، وكان النصر حليفه في كل معركة؛ لأن معاركه كانت لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وتطبيق العدل ونشر الأمن والسلام .
وكانت سياسة "محمد بن القاسم" مع أهالي "السند" سببًا في انضمام كثير منهم إليه ففتحت مدن "السند" على يديه واحدة بعد أخرى، لكن ذلك لم يكن كافيًا لأن يطمئن إلى أن بلاد "السند" كلها قد دانت له، وصارت تابعة للدولة الإسلامية .
فقد كانت أمامه معركة فاصلة مع "داهر" ملك "السند" الذي أراد أن "يستدرج" "محمد بن القاسم" إلى داخل البلاد، ثم ينقض عليه .
كان "محمد بن القاسم" يدرك ما يدور في عقل ملك "السند"، فأعد خطة مدهشة لمفاجأته، فعبر نهر "مهران" في ظلام الليل هو وآلاف من جنده، وفى ساعات قليلة كان الجيش بكامل عتاده على الجانب الآخر في مواجهة جيش "داهر" .
وفى الصباح اشتعلت المعركة مع قوات الملك "داهر"، الذي كان يقود معركته من على ظهر فيل وحوله فيلة أخرى، واستمرت المعركة ساعات قليلة كان النصر بعدها حليف المسلمين، وقتل "داهر"، وتفرق جنده، وتركوا ساحة المعركة هاربين .
وبعد هذا النصر العظيم استكمل "محمد بن القاسم" فتح بقية مدن "السند" وأخذ يثبت دعائم الحكم الإسلامي، ويوصى الناس بالعدل، فأقبل عليه الناس وأعلنوا ولاءهم للمسلمين الذين حافظوا على حياتهم وأموالهم، وأسلم عدد كبير منهم .. وكان إقبالهم على الإسلام عظيمًا على اختلاف طبقاتهم، فأسلم إلى جانب عامة الشعب الحكام والقواد والوزراء وأمراء المناطق المختلفة، مثل الأمير "كاكة بن جندر" ابن عم "داهر" ملك "السند".
مات الحجاج ليلة السابع والعشرون من رمضان عام 95هـ. وقيل أن موت الحجاج كان بالنقرس، وقبلها مرض مرضاً شديداً.
ترك الحجاج وصيته، وفيها قال: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث.. الخ.
تمثل عند احتضاره بهذين البيتين:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا أيمانهم أنني من ساكني النار
أيحلفون على عمياء؟ ويحهم ما ظنهم بعظيم العفو غفار
ويروى أنه قيل له قبل وفاته: ألا تتوب؟ فقال: إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع. وقد ورد أيضاً أنه دعا فقال: اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل.
دُفن في قبر غير معروف المحلة في واسط، فتفجع عليه الوليد، وجاء إليه الناس من كل الأمصار يعزونه في موته، وكان يقول: كان أبي يقول أن الحجاج جلدة ما بين عينيه، أما أنا فأقول أنه جلدة وجهي كله.
وقد ترك ميرثا هوبنى الحجاج واسط، وسير الفتوح لفتح المشرق، أمر بتنقيط المصحف، خطط الدولة، وحفظ أركان الدولة قامعاً كل الفتن.
وقد ادب الخوارج
* المصادر *
البداية والنهاية لابن كثير
الحجاج بن يوسف المفترى عليه
الدوله الاموية د. محمد رشاد خليل