أسرار العائلة السعيدة







أولاً: المشاركة بين الوالدين
تبين كل الدراسات أن اشتراك الوالدين في العناية بالأولاد له تأثير عميق جداً على الجو المنزلي، نعني بذلك العناية خلال اللحظات الحميمة في حياة الطفل، مثل فترة ما قبل النوم، أو عندما يكون الولد مريضاً.. لأنه، في مثل هذه اللحظات، ينمو التعلق بالأهل بشكل قوي جداً.

من الصحيح أن مشاركة الأب، في أيامنا هذه، قد ازدادت عما كانت عليه منذ عشرين سنة، ولكن لا تزال الأم هي التي تقوم بهذه العناية بشكل رئيسي: هي التي تضع الطفل في السرير، وهي التي تقرأ القصص له قبل النوم، وهي التي تنظف الجرح عندما يقع الطفل وتضمده برقة، وهي التي تسرع الى سريره في منتصف الليل عندما يستيقظ باكياً صارخاً من جراء كابوس مريع.

ويصبح الأب، نتيجة هذا الخلل في التوازن، أكثر فأكثر عاجزاً عن العناية بالأولاد، ويزداد الاتكال على الأم بشكل مبالغ مما يجعلها هي محور احتياجات الولد ومحور غضبه كما محور سعادته، وكل ذلك من شأنه خلق مسافة كبيرة بين الزوجين، ونلمس هذه المسافة أو هذا البعد في مشاهد عديدة من الحياة اليومية، مثلاً عندما يرفض الطفل أن يأخذه والده الى السرير، أو عندما يصر أن تقرأ له أمه القصة قبل النوم وليس أبوه.. فما العمل؟

ننصح بأن يقوم الأب بهذه الوظائف مرتين في الأسبوع بالغرم من ردة فعل الطفل، فعندما يرى الطفل أن أبه بالفعل يصر على التواجد معه في مثل هذه اللحظات، ينمو تعلقه به حتى أنه سوف يفاجئك عندما ترين أنه، في إحدى الليالي، سوف يأتي الى أبيه لأن بطنه يؤلمه! لكن، في هذا الإطار يجب أن ندرك أن الأم هي التي، في كثير من الأحيان، ترفض أن تعطي الأب مسؤوليات من هذا النوع، فهي إجمالاً تصر أن تأخذ الولد بنفسها الى الطبيب للمعاينات الدورية (لأنه، باعتقادها "لن يسأل الطبيب الأسئلة التي أنا أسلألها")، أو الى الحلاق لقص شعره (لأنه قد يفقد صبره على الولد إذا بكل وصرخ خوفاً من مقص الحلاق)..



لذلك فإننا نعتقد أن الأم تلعب دوراً رئيساً في جعل الأب يشعر أكثر بالمسؤولية تجاه هذه الأمور، وبالتالي في خلق هذا التوازن في الرعاية والعناية من خلال إعادة تقييمها لأدوار الأمومة والأبوة ضمن الأسرة، وتوزيع المهام بشكل متجانس بهدف خلق تناسق بين الطفل وكلا والديه.

ثانياً: التواصل القوي
من أهم العوامل التي يرتكز عليها نمو الطفل السليم هو التواصل القوي مع الوالدين، إذ إن هذا التواصل يشكل وقاية ضد العديد من السلوكيات السلبية.

يتكون هذا التواصل من العناصر التالية:

إعطاء الانتباه للولد وجعله يشعر بأننا مستعدون للاستماع اليه ولتفهم مشاعره. على الأهل، والأم بشكل خاص، أن يعيروا الاهتمام الكافي لاحتياجات الطفل، خاصة في المراحل المبكرة من نموه، كما الإصغاء الى رغباته وأحلامه ومشاعره، فالممارسة العيادية ترينا أن تجاهل مشاعر الطفل تؤدي الى العنف عنده (أي التعبير الجسدي بدلاً من التعبير الكلامي).

توفير الدعم العاطفي للولد، بمعنى أنه يجب التأكيد له، بأسلوب أو بآخر، أننا نتفهم حالته (غضبه، حزنه، شعوره بالإحباط..) ونحبه ونتقبله مهما فعل، فلا يجوز أبداً أن نقول للطفل: "أنا لا أحبك"، بل يستحسن القول: "إن هذا السلوك يزعجني". فإذا احتاجك ولدك لشيء ما، اجعليه يشعر بأن احتياجه هذا أهم من أي شيء آخر بالنسبة لك، فمثلاً، عندما يأتي إليك باكياً لأن لعبته المفضلة قد انكسرت، اتركي كل شيء وانزلي الى مستواه، انظري الى عينيه، واطلبي منه أن يسمح دموعه، ثم أن يخبرك ماذا حصل بالضبط هكذا ترينه أنك مستعدة للاستماع إليه، وأن ما يقوله مهم جداً بالنسبة لك.. ومن ثم، حاولي تصحيح الأمور معه (تلصيق اللعبة المكسورة). المطلوب إذن هو وضع أنفسنا في موقع الطفل، والنظر الى العالم من خلال عيون الطفل. عندما يعاني الولد من مشكلة سلوكية معينة، نشعر إجمالاً بالغضب والخيبة، لكن ما نهمل أن نفهمه هو أن الولد هو أيضاً غاضب من نفسه، علينا إذن وضع غضبنا الى جانب وأن نحاول تفهم الولد من خلال طريقة تفكيره هو.

العنصر الثالث الذي يميز التواصل القوي بين الأهل والأولاد هو القدرة على التعبير عن حبنا لهم: عندما يعلم الطفل أن والديه يحبانه كما هو بالرغم من مشاغباته أو مشاكله، عندئذ لن يشعر بالقلق من فقدان حبهما إذا غضبا منه أو أرادا معاقبته لشيء ما، بل يدرك بوضوح أن عقابهما هذا هو درس مهم له لكي لا يتصرف بنفس الطريقة في المرة المقبلة، ولا ينظر الى العقاب، مثل العديد من الأولاد لسوء الحظ، كعملية تهديد أو تحد بينه وبين والديه، أو بالأحرى بين غالب ومغلوب!

ثالثاً: البحث عن الشيء المميز في كل ولد
ضمن العائلة الواحدة يختلف كل ولد عن الآخر، فلا يجوز أبداً مقارنة الإخوة بعضهم ببعض ("في عمره، كان أخوه يتكلم بالجمل!"، "لماذا لا تستطيع ترتيب غرفتك مثل أختك؟"..)، فهنالك طبع خاص يلد به كل إنسان وعلينا احترام ميزات هذا الطبع وتقبلها، فالأولاد يختلفون باهتماماتهم وتطلعاتهم ولكنهم، بالرغم من هذه الاختلافات، كلهم يحتاجون لحبنا وتقبلنا. كما يجب أن نعلم، نظراً لهذه الاختلافات العديدة الموجودة عند أولاد الأسرة الواحدة (كل ولد لديه أسلوبه الخاص للتبعير، وهواياته الشخصية ونقاط ضعف خاصة به)، أن على الوالدين أن يعدلا أسلوب تعاطيهما مع كل ولد من الأولاد، وهذا يشمل حتى طريقة التواصل الشفهي ونظام العقاب والمكافأة.

رابعاً: النظام والقوانين البيتية
خبرتنا العيادية تؤكد لنا أن الأولاد الذين يعانون من مشاكل سلوكية يأتون من بيوت تسود فيها الفوضى، بمعنى أنه لا توجد قوانين ثابتة في حياة الأسرة لتنظيم مجرى الأمور بشكل يمنح الأولاد الشعور بالأمان.

إن الولد يحتاج لمن يضع له حدوداً في كل مجالات حياته اليومية: فهو يحتاج الى أن يعرف متى سوف يأكل، ومتى سوف يستحم، ومتى سوف يذهب الى السرير.. هذه الحدود التي يضعها الوالدان تعطي شيئاً من الانضباط داخل العائلة، وهذا الانضباط يعطي الولد شعوراً بأن هناك من يحميه ويهتم به ويرعاه بانتظام.

كذلك، الى جانب هذه القوانين التي تنظم الحياة اليومية، هناك مجموعة قوانين من نوع آخر يجب أن تترسخ في ذهن الأطفال منذ الصغر. وطبعاً، لكي تكون هذه القوانين فعالة وواضحة للولد، يجب على الأهل أن يطبقوها على أنفسهم، وأن يحترمونها فيما بينهم وأمام الأولاد. مثلاً، إذا افترضنا أن هناك قاعدة في البيت وهي: "في هذا المنزل، لا نضرب"، فعلى الوالدين أولاً أن ينفذا هذه القاعدة في تعامل أحدهما مع الآخر وطبعاً في تعاملهما مع الأولاد. إن مثل هذه القوانين تضع أمام الطفل توقعات سلوكية واضحة يفهم من خلالها ما هو السلوك المرغوب به وما هو السلوك غير المقبول، وما هي نتيجة كل سلوك يقوم به. هكذا يتعلم الطفل ضبط مشاعره وردات فعله من دون حتى تدخل الأهل، أي يصل الى درجة تنبؤ نتيجة أفعاله على الميحط ويدرك ما هو الحل الأفضل لكلا الفريقين.

يجب تشجيع الطفل على احترام هذه القوانين وأن نشرح له لماذا احترامها مهم (مثلاً: إذا استيقظت وجهزت نفسك باكراً للمدرسة، تستطيع اللعب قليلاً قبل الذهاب الى المدرسة!")، كذلك يجب على كلا الوالدين أن يتفقا على نفس القوانين، فلا يجوز أن تتسامح الأم بموضوع معين وأن يأتي الأب ويعاكسها كلياً في نفس الموضوع. إن مثل هذا التناقض في الأساليب التربوية في البيت الواحد يؤدي الى البلبلة والحيرة والضياع عند الولد، وهذه المشاعر غالباً ما تكون هي المسؤولة عن المشاكل السلوكية الشائعة عن أولادنا.

إن الالتزام بالقوانين أمر يجب أن نركز عليه: فالتزام الأهل بالقوانين أمام الأولاد تزيد ثقة الولد بأهله واعتبارهما كمرجعية صلبة في حياته وتمنحه شعوراً كبيراً بالأمان.. مرجعية قوية صلبة في عالم يتغير باستمرار.. وهذا الالتزام يتمثل في المشاهد التالية في اليحاة اليومية: في حال حصول مشاجرة كبيرة مع ابنك وسط متجر كبير للتسوق، فهو يريد أن تشتري له شيئاً معيناً وأنت ترفضين ذلك لأنه لا يستحقه، أو لأنه ليس لديك المال الكافي لشراء مثل هذا الشيء في الوقت الحالي، فلا تضيعي وقتك بالتفسير له لماذا لا تستطيعين الشراء، فلا الوقت ولا المكان ملائمان للحوار والإقناع. إنهِ تسوقك بسرعة واحمليه بقوة الى الخارج من دون صراخ أو توبيخ، ثم اشرحي له ماذا حصل. هكذا يتعلم الطفل أن لا مجال للمداعبة أو الدلع للحصول على ما يبغيه من خلال تصرفاته السلبية هذه.

من ناحية أخرى ، يفرض الالتزام بالقوانين علينا أن نوضح للولد ما هي نتائج تصرفاته (العقاب أو المكافأة)، وهنا يجب أن نذكر أن هذه النتائج يجب أن تكون واقعية (أي أن يدرك الولد أنك باستطاعتك تنفيذها فعلياً) ومتلائمة مع قدراته الفكرية (أن يفهمها بوضوح) والجسدية (هل يستطيع الولد تنفيذ أو تحمل العقاب الذي اخترته؟).

مثلاً: طفل في الثالثة من عمره أخذ يرسم على الحائط بواسطة أقلام الحبر الملونة. تأتي الأم وهي غاضبة جداً منه وتوبخه وتفرض عليه كعقاب أن ينظف الحائط، يحاول الطفل تنظيف الحائط ولكن كلنا نعلم كم هو من الصعب تنظيف آثار الحبر الملون من على الحائط، فلا يستطيع تصحيح خطئه ويتعب ويحس بالقهر ويبكي..

إن مثل هذا العقاب غير متلائم مع قدرات ابن الثالثة ومن الأفضل ، في مثل هذه الحالة، أن تقول الأم للطفل: "تعال سوف أساعدك على تنظيف الحائط"، وأن تحرمه من أقلام الحبر لبقية النهار ! فما يهمنا هو تعليم القيم للأولاد وليس قهرهم من خلال العقاب، وهذا ما يجب أن يدركه الولد: إن العقاب ليس للقهر بل لتعلم طرق أفضل للتصرف.

عندما نتحدث عن القوانين البيتية وعن ضرورة الالتزام بها، لا يعني ذلك أن نطبق نظاماً ديكتاتورياً داخل البيت! فالمرونة في تطبيق هذه القوانين هي أيضاً من أسرار الحياة السعيدة. فمثلاً، هناك قاعدة في المنزل تفرض على الأولاد أن يذهبوا الى الفراش عند الساعة السابعة والنصف مساءً، ولكن هذه الليلة، سوف يأتي الجد والجدة لزيارة العائلة، فبإمكانك تعديل هذه القاعدة بعض الشيء، استثنائي لهذه الليلة، للسماح للأولاد أن يتمتعوا بجدهم وجدتهم بعض الوقت قبل الذهاب الى النوم، على أن تشرحي للأولاد أنك سوف تقدمين بهذا التعديل وسببه (نلاحظ أنه في حال عدم توفير الشرح للولد، قد يسأل هو عنه!). من المهم جداً أن نشرح للولد التغيرات الحاصلة في روتينه اليومي ("في الصيف، عندما يكون الطقس حاراً، تستطيع أن تبقى وقتاً أطول في المغطس للعب، أما في الشتاء فالطقس بارد وقد تمرض إذا بقيت طويلاً في المغطس!").

في الإطار نفسه، يجب أن نذكر أن القوانين المنزلية تتعدل مع نمو الأولاد في العائلة الواحدة، وتواكب احتياجاتهم حسب مراحل تطورهم، فلا يجوز مثلاً أن تفرضي على ابنتك في الرابعة عشر من عمرها أن تذهب الى الفراش عند السابعة والنصف مثل أخيها في الثامنة من عمره!

خامساً: المعرفة والاطلاع
نلاحظ أن العديد من الأهل لا يملكون المعلومات الكافية حول تطور الأولاد أو حول تربيتهم، فمعظمهم يتكلون على نصائح ومعلومات الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء، (وعدد كبير من هذه النصائح أو المعلومات تكون خاطئة أو غير متلائمة مع حالة ابنهم أو ابنتهم).

يجب على الأهل أن يعرفوا أن التطور النفسي يختلف عن التطور الجسدي الذي يسير في اتجاه واحد، الى الأمام. في التطور النفسي، نستطيع أن نقول إن لكل خطوتين الى الأمام، هناك خطوة الى الوراء! فالسنوات الست الأولى من حياة أولادنا تتميز بالكثير من الأحداث التي تفرض ضغطاً كبيراً على الولد (ولادة أخ جديد، الذهاب الى المدرسة، الفروض المنزلية..) مما يسبب في معظم الأحيان العودة الى سلوك طفولي بدائي. إن مثل هذا الارتداد السلوكي لا يجب أن يقلق الأهل طالما أنه لا يدوم أكثر من شهر أو شهرين ولا تتفاقم حدته.

هذا وننصح الأهل أن يكونوا على دراية بالخصائص التي تميز كل مرحلة من مراحل التطور عند الأولاد، فإن معرفة هذه الخصائص تساعدهم على تفهم أولادهم بصورة أفضل، وبالتالي تجنب المشاكل العديدة الناتجة عن سوء فهم وعدم تقبل الولد. إن هذه المعرفة تجعلنا أيضاً نضع أنفسنا مكان أولادنا والنظر الى العالم من خلال عيونهم! فعندما يكون في العائلة طفل يعاني من مشكلة ما، يشعر الأهل بالغضب والخيبة، ولكن ما لا يفهمونه هو أن الطفل أيضاً غاضب تجاه نفسه.. لذلك، من الأفضل أن نضع غضبنا جانباً وأن نحاول فهم الطفل من خلال منظوره.

سادساً: الوقت المميز مع الأولاد
في السنوات الأولى من حياتهم، ما يريده فعلاً الأولاد هو وقت أكثر مع أهلهم.. هذا ونرى أن معظم الأهل يصرفون الكثير من المجهود والمال في خلق برامج باهظة التكاليف ومفرطة الإثارة لأولادهم، بينما ما يريده فعلاً الأولاد هو "وقت مميز" مع والديهم، أي أن يكونوا معاً: إن حضور حفل صاخب ممكن أن يكون شيئاً جميلاً جداً للولد، لكن بالنسبة لهذا الولد، قضاء ساعة بمفرده مع أمه في هدوء وقراءة كتاب قد يعطيه سعادة حقيقية.. إن مثل هذه اللحظات المميزة مع الأم أو الأب توطد العلاقة الحميمة بين الطفل ووالديه، يشعر من خلالها أنه مهم جداً بالنسبة لهما، وأنهما يستمتعان بحضوره معهما، فالطفل الذي ينمو في مثل هذا الجو يتعلم أن يحب نفسه..

باختصار، لا تجعل الولد يعتقد أن يومه يكون مميزاً فقط إذا أخذته الى السينما ثم الى المطعم!

سابعاً: الثقة بالذات ومكافحة الشعور بالذنب
من الطبيعي جداً أن تعتبر الأم أن كل خطأ يحصل في عائلتها هو من مسؤوليتها، وهذا الشعور شائع عند الأم "الجديدة" وعند الأم العاملة. فعندما تحاول الأم أن تكون "الأم المثالية"، تبدأ المشاكل في البيت. يجب على الأم أن تتحلى بالثقة في نفسها، وفي قدراتها، وأن تدرك حدود هذه القدرات، وأن تعلم أن لا أحد يتوقع منها المثالية!

إن مكافحة الشعور بالذنب تأتي من خلال المعرفة والاطلاع، فكلما زادت معرفة الأم بالأمور المتعلقة بتطور الأولاد، تصبح واثقة من خطواتها في عالم الأمومة، وتستطيع أن تحلل وتفهم وحتى تعالج بعض هذه الأمور التي تشكل تحدياً كبيراً بالنسبة لدورها كمربية.

ثامناً: مواكبة عصر الإلكترونيات ووضع حد لبعض الممارسات
يجب على الأهل أن يدركوا أهمية الحاسوب والأدوات الإلكترونية في حياة أولادهم، وأن هذا الجيل يختلف كلياً عن الأجيال السابقة، نظراً الى تعدد الخيارات أمام الأولاد وتعرضهم لخبرات مدهشة من جراء وسائل الإعلام المتنوعة وتزايد الابتكارات الترفيهية بسرعة مذهلة.. وهذا الكلام ينطبق على كل المجتمعات في كل أنحاء العالم وكل الطبقات الاجتماعية. باختصار ، إن طفولة أولاد القرن الحادي والعشرين تختلف كلياً عن طفولة أولاد القرن العشرين، حتى أ، بعض الخبراء في علم التربية طالبوا بإعادة "البراءة" لأولادنا. ففي عصرنا هذا، نلاحظ أن الأولاد هم نسخة مصغرة عن الراشدين: الثياب التي يرتدونها أو التي نشتريها لهم، والأمكنة التي يذهبون اليها أو التي نأخذهم إليها.. في الكثير من الأحيان، نعرضهم الى أشياء ونعملهم إياها قبل أوانها (كم من مرة سمعت أباً فخوراً يعلن بكل اعتزاز أن ابنه في الثالثة من عمره يستطيع تشغيل الحاسوب بمفرده ويمضي ساعات أمامه!).

إنني لا أعترض على فكرة تواجد الحاسوب في المنزل، بل أعتقد أن ذلك أصبح من الأولويات في عصرنا هذا، وعلى الأولاد، كل أولاد اليوم، أن يكونوا على اطلاع واسع ووفير على عالم الحاسوب، وأن يكون لديهم خبرة في التعامل معه (في المدرسة كما في البيت)، إنما أطالب الأهل أن يضعوا ضوابط لهذا التعامل من خلال إشرافهم على البرامج التي يختارها أبناؤهم، ووضع حد للوقت الذي يمضونه أمام الحاسوب أو أية لعبة من الألعاب الإلكترونية الشائعة في أيامنا هذه. إذا كان الأولاد في عمر يمكننا من التحاور المنطقي معهم (وذلك ابتداءً من عمر الست سنوات)، أنصح الأهل، قبل شراء الحاسوب، أن يتفقوا مع أولادهم على برنامج عمل معين (تحديد نوعية البرامج التي سوف يستخدمونها، والفترة الزمنية التي يسمح لهم بقضائها أمام الحاسوب) وأن توضح للأولاد ما هي العواقب التي يجب توقعها في حال مخالفتهم لقواعد هذا البرنامج، والالتزام الحرفي بالخطة بعد إحضاء الحاسوب الى المنزل.. أما بالنسبة للأولاد دون الخمس سنوات، فإنني أنصح بشدة الإشراف الفعلي منذ البدء، خاصة فيما يتعلق بعدد ساعات اللعب.

إن للحاسوب ميزات عديدة، فهو ينمي القدرات العقلية، ويوفر الإثارات المتنوعة للطفل التي هو بحاجة إليها لتعلم الأشياء واستكشاف العالم من حوله، كما أنه أيضاً ينمي التنسيق البصري الحركي (بين العين واليد) والتحديد المكاني، ويعلم دقة الملاحظة وحتى الإبداع في بعض الأحيان. لكنه أيضاً يبعد الطفل عن ملذات الحياة اليومية: يبعده عن أهله وإخوته، وحتى عن أصدقائه، ويبعده عن المطالعة والرسم والتلوين، وعن المشاركة في أحاديث العائلة والمشاريع الجماعية، وحتى عن تناول الطعام على المائدة مع بقية أعضاء الأسرة، وعن ركوب الدراجة والركض في الحديقة وتسلق الأشجار.

أما بالنسبة للتلفزيون ، فتنطبق الملاحظات نفسها: يجب على الأهل أن يضعوا حداً للفترة الزمنية التي يمضيها الطفل أمام شاشة التلفزيون وللبرامج التي يتعرض لها.

كل الأطباء ينصحون بأن لا تتجاوز فترة مشاهدة التلفاز أكثر من ساعتين في اليوم. يجب وضع الحدود في هذا الإطار باكراً، أي منذ الطفولة المبكرة، لأن وضع الحدود لاحقاً يصبح صعباً جداً.

البرامج كثيرة ومتنوعة، وليست كل البرامج التي يقال عنها إنها خاصة بالأطفال تكون فعلاً ملائمة لكل أعمار الطفولة، فبعض الرسوم المتحركة مثلاُ موجهة لعمر معين (بين الست والثماني سنوات)، وتحتوي على مضمون لا يتلاءم مع القدرات الفكرية لطفل في الرابعة من العمر! كما أن هناك بعض المشاهد المرعبة التي لا تخيف ابن الثماني سنوات، بل تخيف أخاه في الرابعة ولا تتلاءم أبداً مع نموه العاطفي في هذه المرحلة من عمره.

تاسعاً: التحدث عن المشكلة
نلاحظ أنه في معظم العائلات حيث يعاني أحد الأولاد من مشكلة معينة، هناك ميل الى كتمان الأمر أو تجاهله أو اعتباره أزمة مؤقتة سوف تزول ("هكذا كان أبوه في صغره.."). إن هذا الكتمان مضر جداً بالنسبة للعائلة كلها، فنكران المشكلة (وقد تكون إعاقة معينة) من شأنه تفاقم المأساة على الجميع داخل الأسرة، فالولد يحتاج الى مساعدة كما الأهل والإخوة.

لذلك ننصح الأهل بالاعتراف أولاً أن هناك خطأ ويجب العمل على تصحيحه: يجب التحدث عن المشكلة أولاً داخل الأسرة، ومن ثم السعي الى إيجاد الحلول المناسبة من خلال استشارة طبيب العائلة الذي قد تحولهم الى الشخص المناسب.

في مجتمعاتنا الشرقية، لا نزال نخشى فكرة اللجوء الى الطب النفسي لمعالجة بعض الأمور. إن هذا الخوف شيء طبيعي، خاصة وأن علم النفس لا يزال حتى يومنا هذا وفي كل المجتمعات دون استثناء (بمستويات مختلفة) محاطاً بمفاهيم خاطئة. لكن الخطأ الأكبر والأخطر هو أن نستمر في تجاهل تواجد مشكلة حقيقية عند الولد، لذلك ننصح بشدة أن يتخطى الأهل هذا الخوف المبني على مفاهيم خاطئة، وأن يستشيروا الاختصاصيين المناسبين لكي يجدوا الدعم المعنوي والعملي في تعاملهم مع ولدهم لمساعدته ولإنقاذ الأسرة من مأساة كبيرة تشل حياة كل عضو من أعضائها
.