بسم الله الرجمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الكاتب: د. رواء محمود حسين
يبدو أن موضوع العقل المتفرد بوصفه موضوعًا قديمًا–جديدًا، قد يجعل الفطن يشتغل على صياغته في سياق نقدي يرتكز على مقدمات معرفية عديدة، من خلال ظواهر الموضوع ذاته، أو بواسطة تداخلهالمعرفي مع ما ورائياته المتعددة، في نواحي الحياة المختلفة، وفروع المعرفة العامة والمتخصصة.
جاء في اللغة: واستبد فلان بكذا أي انفرد به. يقال: استبد بالأمر يستبد به استبدادًا إذا انفرد به دون غيره. (ابن منظور: "لسان العرب"، ط3، دار صادر، بيروت، 1414ه، 3/81). واستبد برأيه انفرد (ابن سيده: "المخصص"، تحقيق خليل إبراهم جفال، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1417هـ، 1996م، 3/431).
يرى الكواكبي أن الاستبداد في اللغة هو: "غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة". وهو عند الإطلاق: "استبداد الحكومات خاصة، لأنها أعظم مظاهر أضراره التي جعلت الانسان أشقى ذوي الحياة. وأما تحكم النفس على العقل، وتحكم الأب والأستاذ والزوج، وبعض الشركات، وبعض الطبقات، فيوصف بالاستبداد مجازًا أو مع الإضافة". وهو في اصطلاح السياسيين: "تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف أو تبعة"، (الكواكبي: "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، تقديم الدكتور أحمد السحمراني، ط3، دار النفائس، بيروت، 1427 ه – 2006 م، ص 37).
أعرف العقل المتفرد على الشكل الآتي: هو العقل الممتد في فعل نموذج من الإنسان، وفي الفكر أيضًا، بمخرجاته المتنوعة، والقائمة على تسليع الثقافة بطريقة الإنتاج النمطي، وقولبة الإنسان بإنتاجه على شاكلة القوالب المتماثلة، أي إنتاج الإنسان الواحدي، وتنميط المعرفة، أي تصنيع أنماط معرفية متشابهة، وتكرار النمط الثقافي الواحد، الممتد في التاريخ، بحيث يتم تعطيل تجديد النمط الثقافي بهدف تحويله إلى أنماط متعددة تشتغل بنسقية واحدة يخدم بعضها بعضها كالبنيان المرصوص، وهنا يصبح التجديد معطلاً والعقل غير قادر على أداء وظيفته الأساسية وهي التأمل والتفكر والتدبر والتبصر!
العقل المتفرد يمكن أن يصل إلى المستوى الذي وصل إليه نمروذ. فمما روي فيه: "أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: فأنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته! فقال له إبراهيم عند ذلك: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، أعرف أنه كما تقول! فبهت عند ذلك نمروذ، ولم يرجع إليه شيئا، وعرف أنه لا يطيق ذلك"، (الطبري: "جامع البيان في تأويل آيات القرآن"، ط1، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420 ه – 2000 م، 5/437).
أو أن يصل إلى ما وصل إليه فرعون في أنه، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنما كان فرعون يُعبَد ولا يَعبُد" ، الطبري: نفسه، 1/124).
أو أن يصل إلى ما وصل إليه أبو لهب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال أبو لهب عليه لعنة الله للنبي صلى الله عليه وسلم: تبًا لك سائر اليوم فنزلت: {تبت يدا أبي لهب} (البخاري: "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري)، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، ط1، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، 1422هـ، 2/104.
من هنا، أي من العقل المتفرد، يستمر التوالد الخلوي المصنع الواحدي البعد، أي أن العقل المتفرد يريد أن يكيف الإنسان على نمطية واحدة تخالف سنة التنوع الكوني، إنه يريد أن يستنسخ كل الانسانية من نموذج أوحد، وهذا ما يتم على طريقة الاستنساخ الخلوي من خلال: "إفراد خلية واحدة معروفة التركيب والوظيفة والشكل ومحددة تصنيفيًا تسمى نسيلة Clone ومن ثم تنسيلها بحيث لا تعطي إلا النوع نفسه، ويتم خلال ذلك تقنية زراعة الخلايا في الأوساط البيئية المحددة والمعروفة، ويكون التنسيل في هذه الحالة لمواصفات معروفة تتبع الخلية المستنسلة" (د. محمود الحاج قاسم: "الاستنسال (الاستنساخ) بين العلم والدين"، مكتبة الجيل العربي، الموصل، 1999م، ص 12).
من هنا يمكن تأكيد أن العقل المتفرد يشتغل على استمرارية التزامن الإنتاجي للنمط المعرفي الواحد في القطاعات المختلفة للإنتاج المعرفي للعقل بطريقة تشبه الاستنساخ الخلوي المذكور.
أما في مجال الشروع بنقد العقل المتفرد فيمكن في البدء طرح السؤال الآتي: هل يمكن قولبة الانسان وتصنيع الثقافة؟
بالعودة إلى علم الحياة الجزيئي، وتحديدًا إلى مجال تقنيات الهندسة الوراثية، يمكن البرهنة على أن إنتاج إنسانين بطرق معرفية متكررة من خلال الناحية البيولوجية، وتسليع الثقافة عن طرق إنتاجها التقليدي المتكرر يعد عملية مستحيلة.
إن المعلومات الوراثية محمولة على الدي. أن. أي DNA وهي مرتبة بشكل يعرف حاليًا بالشفرة الوراثية Genetic Code وبحسب اكتشاف عالم الفلك والكونيات جورج كامو، فقد صور الدي. أن. أي على أنه ليس جزءًا حيًّا فحسب، بل "سلسلة من الأرقام الخاصة تشتمل على معلومات وراثية هائلة، ممثلاً إياها برقم طويل جداً من الصفات إلى الحد الذي يجعل احتمال تكراره بنفس التسلسل لإنتاج شخصين متماثلين تمامًا مستحيلة، وبذلك يكون كل شخص فريدًا من نوعه وغير مكرر"، (د. هدى صالح: "الهندسة الوراثية: تقنية جديدة أم خطر كوني"، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1409 ه – 1988م، ص 33).
وبذلك يمكن البرهنة علميًّا على أن إنتاج إنسان مشابه لآخر بطريقة الإنتاج المعرفي الأيديولوجي المعرفي وتكراره من الناحية الثقافية عن طريق عمليات تقليد الفكر. كما أن عدم إبداع الأصول المعرفية الجديدة يعد عملية مستحيلة تمامًا، إذ تتم هذه القولبة عن طريق التحويل افتراضًا يعد عملية مستحيلة تمامًا، إذ تتم هذه القولبة عن طريق التحويل على شاكلة القوالب البنائية الجاهزة عمليًّا. وهذا يعني علميًّا أن التفرد وفرض الرأي الواحد والهيمنة على الآخر من غير وجه حق وإلغاء فاعلية التفاعل المعرفي يعد غير مجد من الناحية العلمية المحضة ولاغيًا على المستوى البنيوي والاستراتيجي.
الشورى هي أحد أهم الحلول في نقد العقل المتفرد، فالرأي والمشورة أحد الشروط المعتبرة في اختيار الإمامة، كما يرى الماوردي. وهذه الشروط بشكل كامل هي: 1- العدالة الجامعة لشروطها، 2- العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة، 3- الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو أصلح للإمامة، ومن هو أعرف بتدبير المصالح (الماوردي: "الأحكام السلطانية"، دار الحديث، القاهرة، بدون تاريخ، ص 17 – 18).
ومن المسائل التي استنبطها الفخر الرازي من قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 59] المسائل الآتية:
المسألة الأولى: يقال: شاورهم مشاورة وشوارًا ومشورة والقوم شورى. قيل: مأخوذة من قولهم: شرت الدابة شورًا إذا عرضتها، والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشوارًا كأنه بالعرض يعلم خيره وشره، فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها. وقيل: المشاورة مأخوذة من قولهم: شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته.
المسألة الثانية: الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاروتهم وجوه: منها: أن مشاورة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم توجب علو شأنهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم، وإخلاصهم في طاعته، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق، وقال الحسن وسفيان بن عيينة: إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته. وشاورهم في الأمر لا لتستفيد منهم علمًا ورأيًا، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل والمفضول، ولأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات. وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد. ودل على أن لهم عند الله قدرًا وقيمة، فهذا يفيد أن لهم قدرًا عند الرسول وقدرًا عند الخلق.
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس.
المسألة الرابعة: ظاهر الأمر للوجوب فقوله: وشاورهم يقتضي الوجوب (ينظر: الفخر الرازي: "مفاتيح الغيب = التفسير الكبير، ط3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420 هـ9/409-410).