إسطنبول مدينة تستعرض أبّهتها وجمالها وعصريتها المتماهية مع التاريخ، في دراما اجتاحت شاشاتنا العربية بمشاهد طبيعية خلاّبة أثارت فيّ شهية السفر إليها والتجوال في الأماكن التي دارت فيها أحداثها، إذ ليست رومانسية أبطالها الدرامية ما يحفز للسفر إليها، بل لنعرف ما إذا كان ما هو على الشاشة حقيقة وليس جزءًا صغيرًا من مدينة رحبة يبلغ عدد سكانها حوالى 13 مليون نسمة.
شوارع اسطنبول
التجول في شوارع اسطنبول يعني كأنك في سباق مع بزوغ الصباح الذي لم تستطع خيوط الشمس اختراق سحبه الشتوية التي تترك مهمة ايقاظ المدينة للأنوار الكهربائية التي يخفت وهجها مع بدء النهار. وهناك علاقة جدلية بين ليل اسطنبول ونهارها فكلاهما يتناوب على تسلم زمام أمر المدينة، الليل يتعب وكذلك النهار والمدينة وسكانها لا يتعبون. فالأتراك يتميزون بروحهم المرحة والمضيافة.
ما بين زيارة قصور قديمة ضاربة في أعماق التاريخ لسلاطين الخلافة العثمانية، وبعضهم يقدر عدد قصور اسطنبول التاريخية بنحو 2000 قصر، وبين القصر الحديث الذي صنع شهرته من وجود «نور ومهند» في المسلسل التركي الشهير والذي يمثل اهتمامات السياح العرب، ومعالم شهيرة أخرى، كانت الأيام في اسطنبول مليئة بالتساؤل عن تركيا التي تضع قدماً في أوروبا وأخرى في أسيا عبر مضيقها الشهير البوسفور.
في البحر الأسود وأنت تمخر عباب البوسفور، ووسط الاستمتاع برؤية قصور الثراء العثماني وفنادق حديثة ترتقي إلى تصنيفات الدرجة السابعة، ستكون في قمة الحظ إذا قفز دلفين سابحاً بجوارك. وتتكرر أسطورة الحظ عندما تكون وسط خضرة يانعة على «جزيرة الأميرات» أو العرائس، والتي تستقبل مئات الفتيات يومياً للتبرك بالمكان، وإتمام مراسم الزواج وسط زفة وأنغام تركية شهيرة. وهناك أيضاً عشرات الأساطير التي ارتبطت بأماكن متعددة في اسطنبول التي تستقبل عشرات الملايين من الزوار من أنحاء العالم سنوياً، فالحياة المنظمة فيها ووسائل النقل الحديثة ونظافة شوارعها تعد جميعها جزءاً من طقوس الحياة اليومية لأهل اسطنبول عاصمة السياحة والتجارة في تركيا.
مضيق البوسفور يفصل اسطنبول الأوروبية عن اسطنبول الآسيوية. وكلا الضفتين تزركش المضيق بأبنية تاريخية أنيقة اختلفت في نمطها المعماري، وقصور تستريح من دون أن تخشى أمواج بحري مرمرة والأسود. العبّارة تخترق المضيق بهدوء ومياهه تتلون بحسب مزاج السماء التي اجتاحتها السحب الرمادية، فتارة تراها رمادية داكنة وأخرى بلورية. كانت أسراب طيور النورس تارة تسبح فيها وتارة أخرى تحلّق فوقها ولكنها لا تتخلى عنها. صيادون يرمون بصناراتهم في بطن المضيق، وطيور النورس الكسولة تقترب من سلالهم علها تحوز وجبتها من دون عناء الغوص في المياه. أما القصور فكانت منتشرة بسخاء على ضفتي المضيق، وعندها تسأل متى نمر بالقرب من قصر نور ومهند، إلى أن يظهر وكان صاحبه يقوم بترميمه، وقد تضاعف ثمنه ست مرات عن سعره الحقيقي بعدما نال شهرته في هذا المسلسل. وعبور البوسفور لا يمر هكذا، فهناك اسطورة في اسطنبول تقول إذا رأيت دلفينًا أثناء الإبحار فإن كل أمانيك تتحقق.
البوسفور ممر مائي يصل بين البحر الأسود وبحر مرمرة، يمتد 33 كيلومتراً، ويبلغ عمقه 117 متراً، ويصل عمره إلي عامي 4820 و4840 قبل الميلاد، حين ضرب زلزالان كبيران المنطقة معلناً انفصال قارتي أوروبا وأسيا برياً، فتحولت بحيرة مرمرة إلى بحر عظيم مستمداً انسيابه من مياه بحر إيجه والبحر الأسود. وعلى البوسفور جسران أحدهما جسر البوسفور، والآخر جسر الفاتح السلطان محمد، وهما يربطان ما بين آسيا وأوروبا ويعبرهما يومياً ما يزيد عن 800 ألف سيارة معلنة عن تنوع غريب يربط بين تركيا الآسيوية وتركيا الأوروبية أو اسطنبول العريقة. وبالفعل أصبح هذا المضيق على مر التاريخ قناة تجارية بالغة الأهمية، ومعه أضحت اسطنبول عاصمة سياسية وتجارية، والبوسفور مركزاً للسياحة والتجارة العالمية.
تتميز اسطنبول كمقر للإمبراطورية والخلافة العثمانية بأنها تضم ما يقرب من ألفي قصر مهيب على ضفاف البوسفور والأماكن القريبة منه، ولعل أهمها قصر «دولما باهجة» الذي يعد من أفخم قصور العالم وأكبرها، وسكنه آخر ستة سلاطين عثمانيين تناوبوا على عمرانه وزيادة مساحته. وقد شرع في بنائه السلطان عبد المجيد الذي عاش فيه لمدة ستة أشهر فقط. ويحتوي «دولما باهجة» على 293 غرفة، 47 غرفة منها للمعيشة، كما يضم ستة حمامات على النظام التركي القديم والشهير، ويحتوي القصر على 14 طناً من الذهب موزعة بين جدرانه وأثاثه كديكورات داخلية.
وصف سابقاً بأنه اكبر كنيسة في العالم، ومن ابرز الآثار التاريخية في العالم لروعة البناء وفنونه التي تجمع بين البيزنطي والروماني، وقد بدأت عمليات البناء فيه عام 532م، وانتهت عام 537م. ويضم أعمدة مختلفة الشكل والجوهر أُحضرت من أنحاء متعددة من مصر وسورية ولبنان واليونان وإيطاليا وغيرها... ويقوم البناء على 56 عموداً، وعمل على البناء أكثر من 10 ألاف شخص.
حكاية هذه التلة فهي أنه في الزمان القديم كان الشبان العزّاب يأتون إلى هذه التلة ويختارون عرائسهم، فكان الشاب يتأنق بأجمل ما لديه وكذلك البنت، وعندما يعجب أحدهما بالآخر كان الشاب يكتب إعجابه على المنديل ويضعه تحت شجرة ثم تأتي صاحبة المنديل وتقرأ طلبه للزواج، ثم ترمي له بمنديلها بأنها موافقة.وبسبب هذا التقليد سميت التلة تلة العرائس. التلة المشرفة على اسطنبول بقسميها وقد تحوّلت متنزّهًا عامًا يأتي معظم سكان اسطنبول لتمضية نهار العطلة فيه. أما عرسان العصر فيأتون إلى هذه التلة للإحتفال والتقاط الصور نظرًا إلى رمزيتها.
و أخيرا في النهاية كل شيء في هذه المدينة المنقسمة جغرافيًا والمتحدة روحيًا يسألك بصمت فريدة أن تعود إليها، فما تكتشفه منها جزء بسيط لعالم تركي فيه فوضى جميلة تحرّكها روح إنسان لم يتغرّب عن جسد مدينة اسمها اسطنبول.