في الوقت الذي تدقُّ أمريكا طبول الحرب، وتدفع بقواتها إلى قلب العالم الإسلامي، تدفع العقول الكثيرة والكبيرة إلى المطابع بتصورات عن احتمالات المستقبل في ظلال الأحداث اللاهثة من حولنا وفي مثل هذه الظروف، فإن تصويب النظر إلى الماضي حيث الأحداث منتهية، والنتيجة واضحة بمقدماتها، ومن خلال هذه القراءة لما حدث نستطيع أن نتطلع لما سيحدث في ضوء فهم واضح لجذور الواقع من حولنا، وبعد هذا نستطيع أن نقرر -أو على الأقل نفهم- ماذا يحدث لثقافتنا وهويتنا وديننا.
في هذه السطور سنحاول حصر بعض التأثيرات الثقافية للوجود الأجنبي فيما قبل حركات الاستقلال وبعدها، ثم نبتع هذا بالحديث عن تأثير الوجود أو الهيمنة الأمريكية في الفترة الأخيرة؛ لأننا قد لا نستطيع ردًّا للهجوم عسكري، ولكن ماذا عن الهجوم على ثقافتنا وقيمنا ولغتنا وإسلامنا.
تبدأ الهجمة الاستعمارية من جانب الغرب في العصر الحديث من أقصى الغرب؛ إذ هاجم ملك البرتغال مدينة "سبتة" من أراضي المغرب، واحتلها في عام 1415م، وبعدها "طنجة" في عام 1437م، ولما كانت منطقة القلب في العالم الإسلامي قد تخلصت من الحملات الصليبية؛ فقد بدأت الخطة الاستعمارية الجديدة بالتوجه إلى الأطراف أولا، وساعد على ذلك عملية الكشوف الجغرافية، وهي التي مكّنت الغرب من الوصول إلى الهند ودول جنوب شرق آسيا الإسلامية دون المرور على منطقة القلب، واستطاعت البرتغال أن توجد نقطة وُثُوب على الساحل الهندي، وكانت أول مستعمرة لها هي ميناء "جوا" على الساحل الغربي للهند، وبدأت الهجمات الاستعمارية بعد ذلك تجاه الخليج العربي من جانب، وفي اتجاه دول جنوب شرق آسيا من جانب آخر.
طرق الاستعمار
وبدأت القوات الاستعمارية الأخرى تزحف على نفس الطريق حتى تم وقوع الأطراف جميعا، سواء في آسيا أو أفريقيا، ومن ثَم بدأ التوجه إلى منطقة القلب، وكان الأمر أحيانا يأخذ شكلا عسكريا صرفا مثل ما حدث مع المغرب والجزائر، أو يأخذ شكل امتيازات تجارية وديون مالية أولا، ثم يُتبع ذلك تدخلا عسكريا صرفا مثل ما حدث في ليبيا ومصر والعراق وغيرها.
ولنأخذ مثالا موجزا للنوع الأول:
الجزائر؛ إذ حدث في عام 1837م أن حضر قنصل فرنسا حفلا رسميا نظّمه حاكم الجزائر "الراي حسين"، فإذا بالقنصل يوجه إهانة مباشرة لشعب الجزائر وحكامها على مسمع منه، فيلطمه الحاكم بمروحة ورقية في يده؛ فإذا بفرنسا تحشد جيوشها، وتحاصر بأساطيلها الموانئ الجزائرية، وتغزو أرض الجزائر، وتظل قابضة عليها 130 عاما، لماذا هذا كله؟! انتقاما لكرامة وهيبة فرنسا.
وأما النوع الثاني:
مصر، تتزايد المصالح الإنجليزية في مصر، وتتزايد ديون مصر، وتصبح إنجلترا هي الضامن لسداد الديون المصرية لكافة الدول، ولضمان ذلك ترسل مندوبا عنها لإدارة الشؤون المالية، وتحدث مشادة بين سائق عربة حنطور وأجنبي، فإذا بالأجانب يثورون ويهاجمون المصريين، وبالمصادفة البحتة يكون الأسطول البريطاني بأكمله أمام السواحل المصرية يصاحبه –بالمصادفة أيضا- عدة فرق عسكرية بكامل سلاحها ومدفعيتها، ويضرب الأسطول الإسكندرية، وتنزل الفرقة العسكرية لحماية الرعايا الأجانب، وبالتعاون مع خديوي مصر (توفيق باشا) يتم احتلال مصر والقضاء على المقاومة المصرية بقيادة أحمد عرابي، ومن أجل تنظيم أحوال البلاد تظل إنجلترا في مصر أكثر من 70 عامًا.
بدايات الغزو الثقافي
وحتى لا نقول من عندنا كلاما مرسلا عن تأثيراتهم في البلاد التي وقعت تحت سيطرتهم، سننقل بعض الأقوال من تقاريرهم؛ لتكون أصدق تعبير عن خطتهم تجاه مستعمراتهم.
بعد عامين فقط من قيام الثورة الفرنسية -ثورة الحرية والإخاء والمساواة- وقف أسقف عام فرنسا أمام الجمعية الوطنية في باريس عام 1791م، وتحدّث عن مشرع إلغاء تجارة الرقيق من المستعمرات الفرنسية قائلا:
"إذا فقدتم سنويًا ما يزيد على 200 مليون جنيه تحصلون عليها الآن من هذه التجارة في المستعمرات، وإذا لم تحتكروا هذه التجارة مع مستعمراتكم لإطعام الصناع في بلادكم، والإبقاء على سلاح البحرية، ولدفع عجلة زراعتكم، ولتغطية قيمة وارداتكم، ولتوفير احتياجاتكم الكمالية، ولجعل الميزان التجاري مع أوروبا وآسيا لصالحكم؛ فإني أقولها بصراحة: إن الدولة ستضيع بلا رجعة".
ومن ثم لم تجد ثورة الإنسانية والاستنارة بُدًّا من غض الطرف عن هذه التجارة لتحفظ مصالحها.
وقد أمرت السلطات الجزائرية بإغلاق كافة المدارس العربية، وإلقاء القبض على كل من يقوم بالتدريس في المساجد، وكان هذا القرار في عام 1929م، وصار التعليم فقط باللغة الفرنسية، وبالتالي بمدرسين فرنسيين.
ويقول المبشر" صموئيل زويمر" في مؤتمر القدس عام 1935:
"لقد قبضنا -أيها الإخوة- في الفترة من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا (1935) على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، وقد أعددتم من خلالها نشئًا في ديار المسلمين، لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراد له الاستعمار المسيحي؛ لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يعرف همه في دنياه إلا في الشهوات؛ فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات، ومن أجلها يجود بكل شيء…".
وينقل لنا مستشرق مَجريّ صورة المجتمع الشرقي بعد دخول المؤثرات الغربية بقوله: "قد غدا الشرق اليوم يرتاح إلى العادات والآداب الغربية ارتياحًا كبيرًا، ليس في المظاهر والصور الخارجية فقط، بل في أسلوب المعيشة المنزلية، وذلك من صفة الأثاث والمتاع، وآداب المائدة، وأسلوب التعامل مع المرأة…".
وأضف إلى ما سبق ترك الأزياء الوطنية، وملاحقة الموضة الغربية، والاحتفاء بالموسيقى والأغاني الأجنبية؛ وهو ما دفع شباب المطربين إلى مشابهتها ليحظوا بالجماهيرية، والاحتفال بالأعياد الغربية مثل رأس السنة الميلادية. وغير هذا كثير.
حدود جغرافية وحضارية
أما مشاعر الانتماء، فكان من الأهمية تنمية بديل للمشاعر الإسلامية، فيقول "جب": "قد كان من أهم مظاهر تغريب العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة، مثل الفرعونية والآشورية وغيرها".
ويكمل جب بقوله: "لقد صار المسلم الريفي في مصر الآن يتعرف على الدنيا من خلال الجريدة، ويستشير رجل السياسية، بعد أن كان يتم ذلك عن طريق شيخ المسجد .. وهذه خطوة في الاتجاه الذي ننشده..".
ونختتم بنص وثيقة هامة، كانت التقرير النهائي لمؤتمر استعماري في بريطانيا عام 1907، وعُرفت باسم وثيقة "كارل بانرمان" (رئيس وزراء بريطانيا في هذا الوقت).
"لقد وصلت حضارة الرجل الأبيض إلى مرحلة الشيخوخة، ومن ثَم فلا بد من وَرِيث لهذه الحضارة، ولكن يجب أن يكون هذا الوريث صديقًا لحضارتنا وجزءًا منها، وقد أجمعت الدراسات أن البقعة الممتدة من شمال أفريقيا إلى شرق البحر المتوسط هي المؤهلة للقيام بهذا الدور؛ لما فيها من ارتباط جغرافي ولغوي وتاريخي، ولما فيها من عناصر التكامل الطبيعية، ولكن هذه البقعة تتسم بطابع العداء لحضارة الرجل الأبيض، وهو عداء تاريخي قديم، ومن ثَم فيجب دفع عجلة الحضارة في مناطق أخرى مثل أمريكا وشرق آسيا، والعمل علىالحيلولة دون تطور هذه المنطقة، والعمل على تقسيمها، وتنمية الصراعات بين أجزائها، وبين طوائفها الدينية، والعمل على فصل قسمها الشرقي عن شمال أفريقيا بجسم غريب يحول دون توحدها...
وماذا عنا؟
والآن ما هي ثمرة الجهود الاستعمارية في واقعنا المعاصر، والذي استقل عن الاستعمار العسكري منذ قرابة نصف قرن من الزمان؟
من العسير أن تلقي باللوم كله على الاستعمار فقط، فهذا كما قيل: "يستهدف إبراء الذمة، وليس إجلاء الغمة"، فالغمة المتمثلة في واقع مهترئ، يتصارع فيه الفكر السلفي الأوروبي مع الفكر السلفي العربي؛ فتكون المحصلة في النهاية صفرًا.
هل نستعير دنيا غيرنا المتمثلة في الغرب، أم نستعير دنيا كانت لأجدادنا كانت عظيمة ليس لها صلة بواقعنا، واستنزف الجميع في الدفاع عن النموذج الجاهز الذي وجده، وتعلق به، ولم يشأ أحد أن يتعب نفسه في إنشاء نموذج جديد يحمل قيم ومبادئ ثقافتنا، ويمتزج مع أسباب النهوض؟!
إن الحضارة الحديثة شرعت تهاجم أرضنا من جديد، وفي غياب التناقضات العالمية التي احترف العرب والمسلمون استخدامها، أصبح المسلمون جميعا تحت الهجوم الغربي الجديد، وصار كلا الطرفين مستهدفًا، تُرى ماذا هم فاعلون؟