العمر يمضي والاحلام لم تتحقق
كم تألمنا؟.. كم بكينا؟.. كم عشنا ضياع الفرص؟
العمر يمضي والأحلام لم تتحقق!
مضى زمن طويل، منذ ذلك الوقت الذي قررت فيه أن تكتب مذكراتها، وتترك للقلم أن يرسمها بالحبر كيفما شاء، قبل ذلك كانت تحاول دائماً أن تترك أصابعها معلقة في الأشياء التي تمر في حياتها، كانت تحب كثيراً أن تترك شيئاً منها على الأشخاص الذين يعبرون قريباً من ضفة قلبها، كانت تُحب أن تعطي شيئا خاصا منها لكل من مرِّ قريباً من حياتها التي مرت سريعاً، سريعاً كسرعة
القطار الذي يخطف الطريق بين عجلاته من دون أن يفكر أن يتوقف، مضى وقت طويل وهي تفكر كيف وصلت إلى سن الأربعين؟، كيف سيكون شكل الأعوام العشر المقبلة التي تطل برأسها على حياتها بوداعه كطفل كسر إناء الزهر ثم ابتسم، لكنه الأربعين، العمر الذي يبلغ المرء فيه أشده، قوت، عزمه، قراره الأكيد، نضجه، وتمام اكتمال تقاسيم جسده، فلماذا لاتزال تشعر أنها صغيرة، صغيرة بذلك القدر الذي تتردد كثيراً أن تعترف أمام مرآتها أنها وأخيراً وصلت سن الأربعين!.
ما أصعب أن تكبر وتجد نفسك أمام «ميزان» يرجح نقصان أيامك وأنت كما أنت!
مازالت تهز برأسها يميناً ويساراً، تبتسم كما الذي يعيش حالة "خدر" غير مفهومة، لتسأل: "هل أنا حقاً امرأة الأربعين؟، هل حقاً مضى العمر سريعاً من دون أن يلتفت لينظر لهذا القلب الصغير الذي مازال يحبو بداخل قفصي الصدري ولم يتعلم بعد؟، تبسط يديها عند مكان القلب، تتحسسه كأم تتفقد رضيعها في سريره المهتز، تتأكد أن كائنا حيا مازال ينبض بداخلها، تسحب يدها تباغت المرآة بذات السؤال الحائر: هل كبرت؟، هل مضى العمر بي؟، تستدير نحو كتابها المُلقى على حافة
سريرها تتناوله كمن وقع على كنز، تتأمل عنوانه: "40 في معنى أن أكبر" للكاتبة "ليلى الجهني"، تقلب صفحاته تتمتم: "إنني أكبر وليس بيدي أن لا أفعل، كل ما بيدي وأنا أكبر هو أن أعي كيف ينحتني هذا الكبر، ما الذي يأخذه مني؟، وما الذي يضفيه علي؟"، ثم تقرأ: "إنني أكبر، واغدو أكثر هشاشة من قبل، يؤذيني أحياناً أن أشعر أنها هشاشة من يعي ويعرف أكثر مما يجب، لا هشاشة من لا يجرؤ، أليست الهشاشة عطباً في الروح؟".
تقفل الكتاب تأخذه هاربة إلى صدرها، تراقصه في غرفتها، تستدير في كل زاوية وهي تغني: "أليست الهشاشة عطباً في الروح"، ترفع صوتها حتى ينسحب منها إلى صمت ينتهي بها إلى مرآتها لتنظر بألم إلى وجهها، عينيها التي كم عاشت طويلاً، كم تألمت، كم بكت، كم عاشت ضياع الفرص، كم سرقت منها أحلامها، كم فارقت حبيبها، كم تعطشت إلى فرح، كم تطلعت إلى أمل، كم خذلها المقربون، كم طعنها الصديق، كم تشمت بها أعدائها، كم وكم حتى مضى العمر سريعاً يسرق معه الأحلام من دون أن يلتفت إليها.
أحلام ضائعة
مضى العمر سريعاً، في طياته سنوات مازالت تشتاق إلى أحلامها الضائعة، أو ربما المؤجلة أحياناً، مضى وهو يتحسس جراح الذي قارب أن يفتقد جسده لفرط جوعه لكل الأمنيات التي علقها في الأفق، ترك الباب مواربا إلى الأمل، لكنه تأخر كثيراً، والعمر بلا رحمة يخطف منّا جميع الأشياء المغلفة التي كنا قد غلفناها لأوقات بلوغ الفرح، انتظرت مغلفاتنا كثيراً والحلم لم يتحقق بعد، نتشبث بكل ما لدينا من قوة حتى نبقى أوفياء لحالة اسمها الأمل، الذي وُلد مع الأماني
الصغيرة، التي مع تقدم العمر تكبر، إنها تكبر وتشيخ ومازالنا نحن كما نحن أيضاً ننتظر، نعاود ترداد ذات الرؤية للأشياء التي نحبها ونمدها بإخلاص متسع حتى حدود الأرض، لنبقى نؤمن أن هناك ما هو يستحق أن نعيش من أجله حتى إن مضى العمر ولم يأت، ولم يقترب منّا، لم يلامسنا، لم يهمس في أذننا، بل ولم يقدم لنا زهور الحقل التي زرعناها لهكذا موقف.
أنت كما أنت
ما أصعب أن تكبر، وأن تجد نفسك أمام ميزان يرجح فيه نقصان أيامك وأنت كما أنت، مازالت مهووساً بفكرة واحدة، بقرار واحد لا تجرؤ أن تتخذه، بقلب الحب الذي لا يأتي أبداً وفياً، بمكانة أنت من تستحقها، بأسرة تحتفي بك، بحياة تفتخر بها، بطفل يعيد تشكيلك من جديد، بتغير تحتاجه عند نقطة الصفر، بطموح تعتق كثيراً وأنت تخطط له، لكنه أيضاً لم يأت.
حينما يمضي بنا العمر، من دون أن نستطيع أن نتصالح معه، فإن ذلك لا يعني أبداً مرارة الشيخوخة والخوف من الموت، بل إن روحاً مازالت رطبة، ندية، تحتاج إلى من يسمع صوتها، من يؤمن بها، من يرقب النور الذي يسكنها، حينما يكون لمعنى البقاء ذات معنى الغياب، حينما يكون لمعنى الحُب ذات معنى الكُره، حينما يكون للون الأبيض ذات معنى السواد، حينما يكون لمعنى السعادة ذات معنى العتمة، حينما تكتشف أنك تراهن خلال سنواتك الماضية على أوهام يقلصها لك العمر الذي ذهب من دون أن يسألك العذر، من دون أن يقول لك وداعاً.
أيام تسرقنا
ونبقى "مهبولين" بأيام ضاعت فيها الأشياء المضيئة التي خفت جداًّ ضياؤها، لا نستطيع أبداً أن نعيد عربة الوقت إلى الخلف، لن نستطيع كذلك أن نوقف العمر حتى ننتظر أحلامنا لتلحق بنا، لتعاود التفكير بنا وبالزمن الذي منحناه إياه لكي ترانا بعيون المحب، تشفق علينا فتتحقق، لكنها أبداً لن تفعل، وأبداً لا يتوقف العمر في سرقة نبضنا، نتألم ونحزن ونخاف من عمر لا يبقى فيه متسع حتى للتفكير بما تبقى، لكننا بشر مسيرين بأقدارنا، مشبعين بمخاوف لا حصر لها بثقل كبير من
التجارب والخسارات، التي أتعبتنا وأخذت منّا أكثر مما أخذه العمر الذي مضى، والذي يصر أن يمضي.
حينما يمضي العمر بنا، فإننا نكبر، ويبقى هناك بين الحد الفاصل بين زمنين حالة عميقة جداًّ اسمها "التوق" الذي يسكن في عروقنا، يسير مع دمائنا، ينعس في أجفاننا، يزورنا عند كل ليلة نتوحد فيها مع ذواتنا لنعيش قلق الفقد والخسارة، التي ولّت مع تلك الفرص.
لم ننجح
يباغت فينا ذلك "التوق" كل شيء حتى ما نخفيه بداخل الروح حتى لا يموت، لا ينتهي، حتى إن انتهى وقتها يظل بأعماقنا يزيد من لمعان تحفنا الثمينة التي حفرت بداخلنا، أخذ العمر ما أخذ، فيما بقيت هي تنير طريق القلب الذي لم يشخ بها، مازال كائن صغير، يعشق ويحلم وينتظر ويغامر ويتوقف، حتى تأتيه الفرصة ليحقق أحلامه التي لم تنته يوماً، حتى وإن مضى العمر.
أن يمضي العمر بنا، ولم تتحقق أحلامنا، لم نصل، لم ننجح، بل ولم نستمر، فإن ذلك لا يعني أننا كبرنا، بل يعني أننا خاسرون في معركة لم تدر إلاّ من طرف واحد فقط وليس طرفين، طرف واحد محارباه هما "الأماني" و"القلب".