من لم يدخل بغداد لم يدخل الدنيا
بغداد
كانت طرقها وشوارعها اذا جاء الليل
تضيء بالانوار للماشين
وطرقها معبّدة للسائرين ايام كانت عاصمة لدولة الاسلام
في زمنٍ
كانت فيه دول اوروبا
تعاني من ظلمة الجهل فيما سمّي "بالعصور المظلمه"
وهل التاريخ إلا تاريخ بغداد؟! وهل العلماء إلا علماء بغداد؟ وهل الشعراء إلا شعراء بغداد؟
ومن مشهور الأقاويل فيها قول الشافعي ليونس بن عبدالأعلى : يا يونس : أدخلت بغداد؟ قال : لا. قال : يا يونس ، ما رأيت الدنيا ، ولا رأيت الناس!!!
وقيل فيها : بغداد حاضرة الدنيا ، وبقية الدنيا رستاق يعني بداوة.
وقال فيها ياقوت الحموي : بغداد سيدة الدنيا ، وأم البلاد . وقال : بغداد سُرَّةُ الدنيا. ولكم أن تراجعو كلامه هذا في معجم البلدان.
ومن أسماء بغداد المشهورة الزوراء وبعضهم يخص الزوراء بمنزل المنصور من بغداد .
وفيها يقول الطغرائي في لاميته الشهيرة بلامية العجم :
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ** فيهـا ، ولا ناقتي فيها ولا جمـلي
لم أرتض العيش والأيام مقبلة ** فكيف أرضى وقد ولت على عجل!!
ويقول فيها صفي الدين الحلي في قصيدته السائرة :
سلي الرماح العوالي عن معالينا ** واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا
إلى أن قال :
يا يوم وقعة (زوراء العراق) وقد ** دنَّا الأعادي كما كانوا يدينونا
بضمَّرٍ ما ربطنـــاها مسومة ** إلا لنغـزو بها من بات يغزونا
وفتية إن نقل أصغوا مسـامعهم ** لقولنـا ، أو دعوناهم أجابونا
قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة ** يوما،وإن حُكموا كانوا موازينا
وللجاحظ فيها كلام في غاية الحسن أذكر منه قوله بالمعنى إن لم أكن واهماً وأذكر أنني قرأته في تاريخ بغداد للخطيب أو في أحد كتب الجاحظ نفسه : قد رأيت المدن العظام المذكورة بالإتقان والإحكام بالشامات والروم وفي غيرها من البلدان ، فلم أرد مدينة قط أرفع سمكاً ، ولا أجود استدارة ، ولا أجود فصيلاً من الزوراء ، كأنما صبت في قالب ، وكأنما أفرغت إفراغاً). أو كما قال.
وتسمى مدينة المنصور ولا أذكر شاهداً على ذلك من الشعر.
وتسمى المدينة المدوَّرة وأذكر فيها أبياتاً قالها الأثري رحمه الله أذكر منها قوله في بغداد:
طاولت ناصية الشمس عَنانا **وشأت ناصية النجم عِنانا
ضاهت الشمسَ ولكن شأنها ** كان أعلى من على الشمس مكانا
يعتري الشمس أفول وهي في ** أفقها طالعة آنا فآنا
إلى أن قال:
دُوِّرَتْ في الأرض وانداح اسمها ** وغدا أعظم منها دورانا
وتسمى مدينة السلام وكما تعلمون أن الذي بناها أبو جعفر المنصور عام 145هـ وانتقلت إليها الدولة العباسية سنة 149هـ .
وهذه بعض الأبيات التي تحضرني في التشوق لها ووصفها.
أما تذكرون أيها الأحباب قول ابن زريق البغدادي بعد رحيله عنها وأنتم بلا شك تحفظون عينيته الشهيرة :
سافرت أبغي لبغداد وساكنها ** مثلاً ، قد اخترت شيئاً دونه الياسُ
هيهات ! بغدادٌ الدنيا بأجمعها ** عندي ، وسكان بغداد هم الناسُ
وقول بلال بن جرير :
ما مثل بغداد في الدنيا ولا الدين ** على تقلبها في كل ما حين
سقيا لتلك القصور الشاهقات وما ** تخفي من البقر الإنسية العين
تحيا النفوس برياها إذا نفحت ** وحرست بين أوراق الرياحين
وقول علي بن جبلة العكوك :
لهفي على بغداد من بلدة ** كانت من الأسقام لي جنة
كأنني عند فراقي لها ** آدم لما فارق الجنه
بل ألا تذكرون ذلك الشاعر الخليع أبي نواس عندما قيل له هل تريد الحج ؟ فقال:
وقائل : هل تريد الحج ؟ قلت له : ** نعم ، إذا فنيت لذات بغدادِ
ولو استرسلت في الكتابة لكتبت لكم من الشعر الذي قيل في بغداد ما لاتملكون معه إلا أن تهتزوا طربا !!
أيها الإخوة : هل تدرون ما بغداد في تاريخ المسلمين ؟ إنها تاريخ الإسلام، أما قرأتم تاريخ بغداد ؟ وما كتب عن بغداد لا يدخل تحت الحصر قديماً وحديثاً . ومن أفضل الكتب التي كتبت عنها ما كتبه أحمد عبدالستار الجواري رحمه الله النحوي الكبير ، وما كتبه الألوسي ، وغيرهم كثير.
وأما الشعراء الذين تسعر في صدورهم الشوق إليها بعد براحها كثيرون منهم القاضي عبدالوهاب المالكي ، وقد نبا به المقام ببغداد ، فرحل إلى مصر فيما أظن ، وقد قال في ذلك أبياتاً شهيرة :
سلام على بغداد من كل منزل ** وحق لها مني السلام المضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلى لها ** وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت عليَّ برحبها **ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه **وأخلاقه تنأى به وتخالف
وقال البياضي :
ولنا بزوراء العراق مواسم ** كانت تقام لطيبها أسواق
فلئن بكت عيني دماً شوقاً ** إلى ذاك الزمان ، فمثله يُشتاقُ
وقول أحد الشعراء ، وقد نسيت اسمه :
على بغداد معدن كل طيب ** ومغنى نزهة المتنزهينا
سلام كلما جرحت بلحظ **عيون المشتهين المشتهينا
دخلنا كارهينا لها فلما **ألفناها خرجنا مكرهينا
وما حب الديار بنا ولكن** أمَرُّ العيش فرقة من هوينا
ومعذرة أيها الإخوة على الإطالة ، ولكن :
ظننتُ بأنَّ الشعرَ يُغني فما أغنى ** وكم شاعر في موقفي أخطأ الظنا
يريدون مني أن أغني باسمهـم ** وأي هضيم باســم أعدائه غنى؟
على أن في بغداد لي من شبابها ** إذا ضقت أنصاراً ومن حولهم حصنا
وهل أنا إلا ابن لبغداد نـازح ** إذا ذكروا بغداد يومــاً له حنَّـا
حمى الله بغداد من الصليبين ، وأعادها حاضرة للإسلام كما كانت أيام هارون الرشيد . اللهم آمين .
المقـامَــــة الـبغـداديَّــــة
(( من لم يدخل بغــداد لم يدخل الدنيــا ))
لبغداد العراق دموع صب على عرصاتها ذبنا غراما
تذكّرك الربوع حياة قوم هموا كانوا لدنيانا قواما
اجتمع أربعة أدباء ، نجباء خطباء ، فتعاهدوا ، وتعاقدوا ،
وتواعدوا ، على أن يصفوا بغداد ، دار الأمجاد ، وبيت الأجواد ،
وكوكبة البلاد .
فالأول : عليه وصف علمائها ، وفقهائها .
والثاني : يصف خلفاءها وأمراءها .
والثالث : يصف شعراءها وأدباءها .
والرابع : يصف أرضها ، وسماءها ، وماءها ، وهواءها ،
وبهاءها .
فبدأ الأول ويُدعى أبا قتادة ، وهو صاحب ذكاء وإجادة ، وعلم
وإفادة .
فقال : والله لو كتبت بدمع العيون ، على صفحات الجفون ، ما
أنصفت بغداد على مداد القرون ، لكن سوف أصف ما كان فيها من
علم وعلماء ،بلغ مجدهم الجوزاء :
ما الدار بعدَك يا بغداد بالدار
تفنى عليك صباباتي وأشعاري
أنت المنى وحديث الشوق يقتلني
من أين ابدأ يا بغداد أخباري
ولكن أقول ، بعد الصلاة والسلام على الرسول : اعلم أن من بغداد
أشرقت شمس الرواية ، وبزغ فجر الدراية ، كانت في العلوم آية
، وفي الفنون غاية . فكان بها أهل الحديث ، ولم يكن بها بعثيّ
خبيث .
ولك أن تتخيل مجلس أحمد بن حنبل ، عمائم بيضاء ، وهمة قعساء
، وسكينة وحياء . إذا قال أحمد : حدثنا أو أخبرنا ، أطرقت
الرؤوس ، وخشعت النفوس ، وتفتحت أبواب السموات ، وتنـزلت
الرحمات :
سقوني وقالوا لا تغنِّ ولو سقوا
جبال سلمى ما سُقِيتُ لَغنّتِ
ثم تذهب إلى مجلس فيه طائفة من الخاشعين ، فتجد وسطهم يحيى
بن معين ، يحدث عن رسول رب العالمين ، يجرّح ويُعدّل ، ويُجْمِل
ويُفصَّل ، كأنه ميزان منـزل .
لو حل خاطره في مقعد لمشى
أو ميت لصحا أو أخرس خطبا
ولله كم من ذكريات تشجيني ، إذا ذكرت علي بن المديني ، ذاك
البطل ، إمام العلل ، السليم من الزلل ، فتراه يفتش الأسانيد
، وينخل المسانيد ، بفهم دقيق ، وعلم وتحقيق ، يعرف العلة في
المسند المستقيم ، كما يعرف الطبيبُ السقيم .
برأيٍ مثل ضوء الفجر ضافٍ
كأن بريقه حد الحسامِ
ولا تنس البخاري ، الضياء الساري ، والنهر الجاري ، قيد
الألفاظ ، وأفحم الحفاظ إن شك في حديث علقه ، وإن طال متنه
فَرّقه ، وإن لقي كاذباً مزّقه ، هو السيف الحاسم لسنة أبي
القاسم ، اقرأ تبويبه ، افهم ترتيبه ، لترى كل عجيبة .
من كالبخاري إذا ما قال حدثنا
أو بوّب الباب أو شدَّ الأسانيدا
كأنما هو إلهام يعلمه
أو أنّه قبس يعطاه تأييدا
بغداد تشرفت بالسفيانين الثوري وابن عيينة ، وأصبحت بالعلماء
أجمل مدينة ، وهي مدينة الكرخي معروف ، والإمام الشافعي
المعروف .
من بغداد أصحاب الصحاح والسنن ، وأهل الذكاء والفطن . وهي
للحديث دار الضرب والصلب بها تضرب الموضوعات للوضاعين ، ولكن
تصلب الكذّابين على خشب السلطان المتين . قال بعضهم : من لم
يدخل بغداد لم يدخل الحياة الدنيا، ومن لم يشاهد حسنها ما
شاهد النجوم العليا .
فقام الثاني يصف الخلفاء والأمراء ، الذين ملؤوا الدنيا
بالعطاء والسخاء .
فقال : هذه مدينة السفاح ، الذي خضب السيوف والرماح ، وكان
لكل مجرم بطاح ، ولكل عدو نطاح .
هذه مدينة المنصور ، صاحب الدور والقصور ، الداهية الجسور ،
والأسد الهصور .
هذه مدينة الرشيد ، صاحب القصر المشيد ، والمجد الفريد ،
والصيت البعيد .
هذه مدينة المأمون ، صاحب الفنون ، وجامع المتون ، ولكنه
بالفلسفة مفتون .
هذه مدينة المعتصم المغوار ، الذي أوطأ الخيل الكفار ، وأورد
نحورهم كل بتار .
بغداد أنت حديث الدهر والأممِ
إذا مدحتك سال السحر من قلمي
أنت المنى أنت للتأريخ ملحمة
كم من رشيد ومأمون ومعتصمِ
ثم قام الثالث يصف الأدباء ، ويثني على الخطباء .
فقال : في بغداد أكبر ناد ، للشعراء الأجواد ، إذا شرب الشاعر
من ماء الفرات ، أتى بالمعجزات ، وخلب الألباب بالأبيات ، سَمِّ
لي شاعراً ما دخل بغداد، اذكر لي أديباً ما تشرف بتلك البلاد :
بغداد يا فتنة الشرق التي خلبت
بسحرها العقل والأقلام والأدبا
ماذا أردد يا بغداد من حزني
إذا ذكرتك بعت الهم والنصبا
من بغداد أبو تمام ، والبحتري الهمام ، وترنح بها المتنبئ
بعض عام .
سجل بها ابن الرومي رواياته ، وأبدع إلياذاته ، وأروع
أبياته .
وفي بغداد أبو العتاهية ، الشاعر الداهية ، منذر القلوب
اللاهية، وصاحب الرسائل الباهية ، الآمرة الناهية . وهي أرض
بشار ، ناسج أجمل الأشعار .
من بغداد انطلقت في البحار والبراري ، رائعة ابن الأنباري :
علو في الحياة وفي الممات . من بغداد استمع الدهر في عجبْ ،
لدويّ : السيف أصدق أنباء من الكتبْ .
بغداد مهرجان أدبي كبير ، لكل أديب نحرير ، فيها شعر ونثر ،
وحصباء ودر ، وصديق وزنديق ، وحر ورقيق ، وموحد وملحد ،
وحانوت ومسجد ، وبارة ومعبد ، ومقبرة ومشهد ، جد وهزل ، وحب
وغزل ، كأن التاريخ كله في بغداد اجتمع، وكأن الدهر لصوتها
يستمع . وكأن ضوء الشمس من بغداد يرتفع .
مصيبة بغداد الحكام الأقزام ، من عينة صدام ، أبطال الشنق
والإعدام .
فقام الرابع فقال : كأن الأرض أخذت من بغداد جمالها ، أفدي
بنفسي سهلها وجبالها ، دجلة له خرير ، والفرات له هدير ،
والنسيم به له زئير ، كأن الهواء سرق من المسك أريجه ، وكأن
الماء أخذ من العاشق نشيجه . تغار من زهر بغداد الزهراء ،
وتحمر خجلاً من حسن بغداد وجنتي الحمراء .
كأن السحاب في سماء بغداد مع الشفق خضاب ، وكأن بريق الفجر
في مشارف بغداد ذهب مذاب . كأن وجه بغداد مشرق ، قبل ميشيل
عفلق . فلما دخلها الرفاق ، وحزب النفاق ، كتب على بغداد
الشقاء والإخفاق .
لله يا بغداد أنت نشيدة
غنت بك الأعصار والأمصار
من لم ير ذاك الجمال فإنه
ضاعت عليه مع المدى الأشعار
أظن بغداد أصابها عين ، أو دخلها لعين ، ما لها قتلت
المبدعين ، وطردت اللامعين.
ماذا أصابك يا بغداد بالعـين
أليس كنت يقينا قرة العين
وأنا عاتب على بغداد ، والعتاب لا يغير الوداد ، لأنه جُلد بها
أحمد ، وقُتل بها أحمد، وأُكرم بها أحمد . فجُلد بها أحمد بن
حنبل ، الإمام المبجل، وقُتل بها أحمد بن نصر الخزاعي ، الإمام
الواعي ، وهو إلى الحق داعي ، وإلى البر ساعي، وأُكرم بها
أحمد بن أبي دؤاد ، داعية البدعة والعناد ، والفتنة
والفساد .
لكن بغداد لها حسنات يذهبن السيئات . ونهر الفرات ودجلة
يطهّران من الحدث ، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث .
اللهم احفظ العراق وبغداد وسائر مدن المسلمين آمين يا رب العالمين